رحيل خضر الناعم صاحب أول برلمان ثقافي لم يقلده أحد..!
إن كان لنا في مدينة حمص أن نفتخر بأسماء إبداعية عدة في حقول مختلفة، وأن نرثي من رحل منهم، فلنا أيضاً أن نفتخر برجل فعل ثقافي لا مثيل لما أنجزه، اسمه خضر الناعم ولنا أن نحزن لرحيله الأسبوع الماضي. للراحل إنجاز ثقافي مهم على صعيد المدينة وتنظيم أنشطتها الثقافية وانطلاق مهرجاناتها، وخلق هوامش واسعة للحوار والمناقشة الفكرية، وإليه يعود فضل إنجاز ما سمي (مجلس الفعاليات الثقافية) الذي تفردت به حمص عن سائر المحافظات، أسسه الراحل عام 1985 حين كان يشغل إدارة مكتب الإعداد الحزبي في فرع حمص لحزب البعث العربي الاشتراكي، ورحيل الناعم اليوم مناسبة للتذكير بإنجازه الذي نتمنى إحياء تلك التجربة التي سبق أن كتبنا عن ضرورة إحيائها، فالمجلس برلمان ثقافي أعضاؤه ممثلون عن كل الهيئات الإدارية، والثقافية والفنية الحكومية وغير الحكومية في المدينة، وهي كما وثّقها- منذ فترة وجيزة في مقال في صحيفة العروبة الحمصية- شقيقه الشاعر عبد الكريم الناعم: الأعضاء هم: مدير مدرسة الإعداد الحزبي، وعضو من المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة، ومثله من مجلس المدينة، وعميد كليّة الآداب، ورئيس قسم اللغة العربيّة في هذه الكليّة، ومديرية الثقافة، ودائرة الآثار، ودائرة السياحة، وصحيفة العروبة، واتحادات العمال، والفلاحين، والطّلبة، والنسائي، ونقابة المعلّمين، وفرع الجامعة لنقابة المعلمين، والشبيبة، والطلائع، واتّحاد الحرفيّين، واتحاد الكتاب العرب، ورابطة الخريجين الجامعيين، ونقابات « الفنون الجميلة، والفنّانين، والصحفيّين»، والجمعيّتان « التاريخيّة، والجغرافيّة»، ونوادي « دوحة الميماس، ودار الفنون، والخيام، وفرقة الإنشاد الغسّانيّة، وإحياء التراث، وموسيقا الشرق، والدّوحة، وصالة الكندي، ونادي السينما، والنّادي السينمائي الطلاّبي»، وأسماء من الوسط الثقافي، ومديرو مكاتب الصحف: البعث، الثورة، وتشرين. وعلى الرغم من أنني وزملاء لم نكن في ذلك الوقت على ملاك أي صحيفة، لكن الراحل كان يحرص على توجيه الدعوة لكل صحفي لمتابعة أعمال هذا المجلس الذي أُسس لغاية تنظيم الفعاليات الثقافية وعدم تضارب مواعيدها، والتزام الهيئات بمواعيد أنشطتها، ولمناقشة ما يتم إنجازه لأجل تطويرها وتجاوز سلبياتها والمعوقات التي تؤخر تلك الهيئات عن تنفيذ برامجها، ولذلك كان المجلس يلتئم كل شهر مرة، ويشارك الجميع بالمناقشة وتقديم الاقتراحات، وذلك بإشراف الراحل كرئيس لهذا المجلس الذي كان يطبع دليلاً سنوياً فيه ثُبت بمواعيد المهرجانات وأهم الأنشطة التي ستقام على مدار السنة، وبالأماكن التي ستقام فيها.
مجلس ومهرجانات
وكان لهذا البرلمان بحسن إدارته ثمرات مهمة جداً فقد ساهم بانطلاق مهرجاني المسرح، والثقافة الموسيقية، والملتقى الفكري الذي سعى من خلاله إلى تحقيق حوار بنّاء وهادف وديمقراطي، تعددت المحاور التي تناولها في دوراته الست التي أقيمت واستقطبت جمهوراً واسعاً، إذ كانت تعقد جلساته في مسرح دار الثقافة، وقد دامت تجربة هذا المجلس– البرلمان، حتى عام 1994 بعد ذلك أصبح الراحل عضواً في مجلس الشعب فهيأ طوال سنوات عمر المجلس التربة لكل فعل ثقافي في المدينة، ففي عهده استقبلت الهيئات الثقافية ضيوفها من كل المحافظات ، ومن بعض البلدان العربية، فشارك في أنشطتها أعلام لا مثيل لهم كالراحلين منصور والياس الرحباني، منير بشير، د. رتيبة الحفني، د. نقولا زيادة وآخرين على قيد الحياة والإبداع، حتى باتت تسمى حمص على لسانهم “عاصمة الثقافة”، وكان الراحل خضر يحرص على متابعة معظم الأنشطة الثقافية بخاصة ذات الطابع المهرجاني فيتابعها من ألفها إلى يائها، من دون كلل أو ملل، ولم يشابهه أحد من المسؤولين بهذه القدرة والتقدير للأنشطة وللذين يحيونها، فكسب احترام الجميع ومحبتهم. كما حرص على تأمين الدعم المادي للهيئات غير الحكومية من ميزانية مجلس المدينة، ولكن للأسف ما إن غادر إلى مجلس الشعب، حتى تراجع مجلس المدينة عن دعم الهيئات الثقافية مادياً، وبدأ التصحر الثقافي يهيمن على المدينة، ولم يتوافر لحمص من يتابع تجربته، أو يقلدها في مدينة أخرى، رغم تسليطنا الضوء عليها في حينها، في أكثر مناسبة، وفي متابعاتنا لأنشطة حمص الثقافية.
استعادة وتكريم
وإن كان لي أن أستعيد من ذاكرتي صورة وجهك وهو يبتسم لي تلك الابتسامة الأبوية عندما زرتك في منزلك عام 1993 لأجل حوار أجريته معك حول تجربة ” مجلس الفعاليات الثقافية” فذكرتك أنني كنت من طلابك في ثانوية الفارابي، وذكرتك بشغبي الذي تطاول على الموجّه، وبقرار فصلك لي نهائياً من المدارس، وأنه لولا وساطة قريب لك وصديق المرحوم والدي، لما سمحت لي بالعودة للدوام قائلاً لي: لولا وساطتك التي أكدت ظني بك بأن شغبك طفرة وليس سلوكاً دائماً لك لما رضيت بأقل من نقل إلى مدرسة أخرى وسيكون مصيرك في الريف حكماً، لعدم وجود ثانوية أخرى بحمص فيها الفرع الأدبي. فابتسمت حينها وقلت ” معقول أنت ذلك الطالب..! يا مرحبا أخي نضال، أنا فخور بك”. فصفحك عني آنذاك أيها المربّي الفاضل سمح لي بإكمال دراستي، وأعفى مصيري من المجهول، ابتسامتك الهادئة تلك هي الحاضرة دائماً حتى عندما كنت تريد الإجابة عن أي متسائل متشنّج حول أي نقطة في الملتقيات أو تعوق مسارها، ولعل رحيلك هذا يحرّضنا على استعادة تجربتك والبناء فوقها بمقترحات جديدة نحتاجها أكثر من أي وقت مضى، فيكون التكريم المناسب لاسمك، التكريم الذي لم تحظَ به وأنت على قيد الحياة والعمل.