لم أكن في وعيي، لقياس المسافة التقريبية الواصلة ما بين مستشفى تشرين العسكري ومستشفى حرستا، وحده مؤشر البنزين في سيارتي كان يشي بتحقيق معادلة حسابية نتيجتها قصيرة المدى مادام الطريق بينهما شبه خال من المركبات والمارة في يوم عطلة، وعناوين أخبار دامية وأنا الهامدة فوق مقود سيارتي يمدني قلبي بالإيمان قبل النبض بجسد قادر على تغطية ما يجري في كلا المستشفيين بجسارة وحب تليق بالموعد الذي ينتظرني فيه شهيد وجريح من الجمهورية العربية السورية…
صباح كل يوم سبت كنت أشارك بتشييع جثامين الشهداء من مستشفى تشرين العسكري، وأنا الغريبة حاضرة كفرد من العائلة أبكي الشهيد وأهنهن بين أخواته وقريباته بلهجاتهم المنوعة، ألتقط بعيون مفجوعة دمعة وحيدة من عين والده وكسرة خاطر عروسته الصبية ونحيب والدته المتماسكة الرزينة، لأستجمع قواي بين رفاقه وخبطة أقدامهم القوية، وهم يؤدون لجثمانه المغطى بالعلم السوري التحية، فيما ممرضات المستشفى ينثرن الأرز والورد من نوافذ المستشفى المكلوم كل يوم سبت..
لم أكن أكلم أحداً لأخذ معلومات عن حياة الشهيد الشخصية، ولم أكن أستجوب ذويه عن مشاعرهم ما بعد استشعارهم لفقد خانة من القلب.. كنت أسجل اسمه الثلاثي فقط، فيما العرض والخاتمة لمادتي الصحفية أهزوجة حب وهنهونة وداع تليق بالشهيد وعائلته الاستثنائية.
برائحة بخور معتق في ثيابي، وعيون شبه قادرة على فعل النظر كنت أكمل طريقي نحو مستشفى حرستا أزور جرحى الجيش وأسجل تفاصيل بطولاتهم صامتة في حضرة قاماتهم إلا من حشرجة آه صادرة دون دمع من مجرى الصدر والعضلة القلبية..
ما بين مستشفيين كانت المحصلة المعنوية أكبر بكثير من قياس المسافة الطرقية حيث الإضافات الشخصية أنني بت وجدانياً أمتلك في خانتي المهنية علامات فارقة؛ أولها أنني شاركت بالكثير من فعل الهنهنة بحضرة وداع شهيد، وثانيها أنني أمتلك ذاكرة محفور فيها ابتسامات جرحى مشفى حرستا، جرحى قطعوا مرضياتهم ونقاهتهم ليشاركوا رفاق سلاحهم معاركهم الوجودية، وهنهنت لهم ذات سبت، لأنهم وعدوا وصدقوا الوعد.