«يحدّها نهر» لـنورا علي .. توقّف المكان والزّمان حيث الفرات
مابرح الفرات يضجّ بالحياة مانحاً الأماكن والأراضي التي يعبرها ضجةً وحركةً والكثير من البهاء.. يُحكى أنّ للفرات قرباناً ممن يجاورونه يأخذه كلّ سنة من أرواح الشّباب والصّبايا اللاجئين لعمقه من جنون القيظ وللقصّة نسل أسطورة، تقول: إنّهم يتحوّلون لبني الجان يرقصون ليلاً على الماء ويلاعبون القصب.. يملك سكّان القرى ذاكرةً متوارثةً تحكي فصولاً من النّار والوجوه واللعنات وسيقان الماعز لقبيلة من الجنّ تقطن شتاء النّهر, وتوقد ناراً عظيمة ترقص حولها فتيات أشهرهن بنت الجرف، المحبوسة بلعنة أبدية لحبّها عاشقاً آدمياً تخطف عقول المارة وتصيبهم بمسّ هوى لايشفون منه أبداً.
هكذا تختصر «ورد» تاريخاً طويلاً من ذكريات الطّفولة على ضفّة الفرات، كما تختصر أماكن كثيرة وقرى تنام مع المغيب وبيتاً كان يضجّ بالحياة وبأهازيج جدّتها «شهلا».. هي أفكار وخواطر ومشهديات رافقت طريق عودتها إلى دمشق حيث تستقر مع «شيركو» زميل الدّراسة في الأدب العربي, وبطل قصّة حبّ عمرها ثلاث سنوات وزوج يضجّ بالحنان والطّموح.. حبّ لم يكن قوياً كفايةً ليستمر كثيراً، فـ«ورد» انخرطت باجتماعات نسائية تدّعي العمل الاجتماعي, و«شيركو» لم يكن راضياً عن ذلك كما أنّه لم يكن وفياً للعطر والثّقة، فقد شاهدته بأمّ العين وهو يشتري الورد لوردة أخرى ويسيران معاً كما كانا يفعلان دائماً، لم تستطع الغفران ولم تعطِ نفسها الوقت الكافي للتخلّص منه نهائياً، بل وقعت في غرام الكاتب «سعد» الذي كان يتردد إلى مكتبة بدأت العمل بها بعد تركها التّدريس.. غرام وهبها أملاً ومستقبلاً سمته «شام» رافقها في رحلتها عبر البحر إلى دولة أخرى مع أمّها «خضرة» التي ابتلعها البحر سريعاً, وأبّ ظلّ قوياً ليكون السّند لابنته وحفيدته.
أحداث تسير بسلاسة وحبكة متينة تجمع «ورد» مع كنانة السّيدة التي كانت حاضرة في الاجتماعات النّسائية السّابقة، وهاهي اليوم تعمل في تسجيل بيانات المهاجرين، لكن الصّدمة ليست هنا، بل كانت بوصول «سليم» الرّجل الذي سلبها أرضها وبيتها في الفرات من ضمن ما سلب من حقوق وملكيات مثله مثل بقية تجّار الحروب.. رؤية «سليم» تصيبها بالذّعر أيضاً وبمشاعر غريبة فهي لا تريد الانتقام منه, ولا التّشفي ولا الشّماتة بصريخ الألم كلّ ليلة، أمّا عنصر المفاجأة الأكبر فهو ارتباطها به لاحقاً ومنحه اسمه لابنتها وتسليمها أوراق أرضها وبيتها.
«يحدّها نهر» هو العمل الرّوائي الأول لـ نورا علي، وفيه تشتغل على قوّة وجبروت المرأة السّورية التي قاومت وصمدت بمفردها أو بوجود سند ضعيف مادياً قوي روحياً بدءاً من جدّتها «شهلا» إلى والدتها «خضرة»، إليها هي إلى بنات الفرات خلال وجود إرهابيي «داعش»، تقول (ص 66): كانت أمّي تنصت وتتنهد حتّى الفرات صار مقبرةً جماعيةً لأبنائه، ليلتها لم ننم ونحن نتحدث أنا وأبي، حدّثني بحزن عن انقراض آخر طير لأبي منجل طائر الفرات النّادر وعن إعدامات ميدانية لشباب من الجيش والطّلاب والموظفين.
في هذا العمل تنقل علي تناقضات الواقع في مختلف مجالاته الثّقافية والاجتماعية والمهنية, وتنتصر للمرأة بحريتها المنقوصة والمرفوضة في بلدها من قبل الأشخاص ذاتهم الذين تقبلوها في بلد أجنبي، كذلك الأمر بالنّسبة لمن كانت تعمل في بلدها بأحد البنوك وتتمتع بكلّ الامتيازات، واليوم هي «ناشطة حقوقية» تسكن في عاصمة إحدى الدّول الأوروبية وتنادي بقصف بلدها، حتّى «ورد» ذاتها وفي علاقتها مع سعد تعبّر عن حزنها لعدم معرفتها شيئاً عن عائلته وجدّاته وطباع أجداده لترويه لابنتها عن عائلته كالذي سترويه عن عائلتها، إنّها تهتمّ لروايات الماضي وأحداثه من دون الاهتمام بتحديد زمن دقيق له، أو رغبتها بتوثيق رقمي، مكتفية بالتّوثيق الرّوحي والشاعري أحياناً، إذ تبدأ روايتها بسقوط بغداد، وتمضي إلى الحرب على سورية من دون ذكر عام محدد، كذلك الأمر بالنّسبة للمكان؛ فهي دائماً تقول الفرات لاتذكر قريةً أو حيّاً أو مدينةً، لكنّها تصفه بدقّة ورومانسية بذاكرة لا تشيخ أبداً مهما ابتعدنا سواء أكان ابتعاداً إرادياً أم قسرياً فرضته الظّروف العامّة أو الخاصّة، لكن يبقى الأمر القسري هو الأكثر صعوبةً على من تمرّس بحب نهر يحدّه من جميع جهات القلب والعقل والرّوح، تقول علي: مانجوت من الصّخب الدّاخلي وأنا ألاعب النّهر بأحجار هاربة من هياجه وأشعله ببقايا سجائري، كنت مشغولةً باحتمالات ودوائر الماء تكبر بعبث ضفدع كسول.
أمّا بالنّسبة للشّخصيات، فلا تغوص علي كثيراً في تاريخها النّفسي أو الاجتماعي بل تمرّ سريعاً على أحوالها الحالية وتحوّلاتها، تاركةً البطولة الكاملة لأنثى الحاضر والماضي والمستقبل، معتمدةً على لغة بسيطة طيّبة كبساطة أهل الفرات وطيبتهم، لتنهي هذه الرّحلة بقولها: نفتح النّوافذ ونصنع غبشاً على الزجاج برائحة تبغ ونبيذ وانتظار، والبدوية بداخلي تشتهي رحيلاً معاكساً لمضارب ستزهر بأحلام كبرى غادرتها على عجل.
تقع الرّواية في مئة واثنين وسبعين صفحة وهي صادرة عن دار بعل للطباعة والنّشر والتّوزيع عام 2021 وتغلّفها لوحةً للفنان زهير حسيب.