الأديب الراحل معتصم دالاتي حين يكون عاشقاً

كنا نعتقد أن قرب منزل الفنان والكاتب الراحل معتصم دالاتي من مقري رابطة الخريجين الجامعيين، القديم والحالي، هو ما يدفعه لحضور مهرجان الشعر العربي الذي كانت تقيمه الرابطة، لكننا اكتشفنا أن الراحل كان من عشاق الشعر وصحبة الشعراء، حين فتح منزله لاستضافتهم وعقد جلسات ود وأدب مع معظم أجيالهم. ثم مضى بين حين وآخر يلقي علينا نصاً لا يتبناه قبل أن يصله رد فعلنا حوله، لكن ذلك لم يأتِ إلاّ بعد فترة طويلة، إذ كان يوهمنا أن ما قرأه علينا قد أعجبه وأحب أن نشاركه متعة التلقي، وحتى عندما بدأ يشير إلى أنه صاحب ما سيقرأ يفعل ذلك بحذر العاشق بكسب ود محبوبته.
ثم انتقل إلى مرحلة تسجيل بعض نصوصه ويضع لها موسيقا مرافقة أو خلفية لها، ربما حسده عليها بعضنا، واليوم وقد مضى على رحيل صديقنا معتصم دالاتي عام كامل، أصدر الصديق د. منقذ عبد المعين الملوحي بعضاً من أشعاره التي تركها، كعربون وفاء لمحبة هذا الإنسان المرهف بعشقه للحياة والنساء والأصدقاء وحمص، ووضع لها عنواناً «حين أكون عاشقاً»، وكعنوان فرعي حمل الغلاف عنواناً آخر «قصائد على ضفاف الشعر»، وقد تجمّل الغلاف بلوحة فنية كان يحبها الراحل دالاتي لصديقه الفنان التشكيلي بسام جبيلي الذي رحل بعده بفترة قصيرة في العام ذاته، حيث قضيا نحبهما بمرض السرطان، ولنا أن نعدّ الكتاب أيضاً توثيقاً لذاكرة تجمع بين الكثير من الأصدقاء الذين استمعوا لتلك النصوص. فمن الجميل تداولها بينهم ووضعها في مكتباتهم، ومن جهة أخرى تحفّزنا، نحن معشر الكتّاب والأصدقاء والهيئات الثقافية الحكومية، على أن نقوم بخطوة مماثلة أو بما يرادفها، كعربون وفاء ومحبة لأصدقائنا الأدباء الذين يرحلون.
أطياف الجمال
وفي هذه الأسطر التي نحتفي بها بهذا الإصدار، ننقل ما كتبه الأديب نور الدين الهاشمي أحد أصدقاء الراحل دالاتي كمقدمة لهذا الديوان، جاء فيها: أحببناه جميعاً.. بل أحبته مدينته بكامل أطيافها.. فقد كان باقة زهر جمعت كل الحسن، فإن أردته محباً للفنون التشكيلية؛ فقد كان الخبير الناقد لها وصديقاً لكل الفنانين المبدعين في حمص، وغدت حديقة الفنانين واحته التي رزمها وعشقها حتى آخر نبضات قلبه، وإن شئته موسيقياً فهو الخبير المصغي لها بسحرها الشرقي والغربي، وإن أردته محباً للأدب فهو صاحب ذوق رفيع في اختيار وحفظ أجمل القصائد راوياً إياها بصوته الساحر العميق المنصهر بروعة المعنى والخيال والموسيقا، وإن أردته محدّثاً فكهاً لبقاً فقد كان حاضر البديهة سريع التقاط اللمحة الساخرة المحببة، وإن شئته عاشقاً فقد خفق قلبه لكل امرأة صادفتها عيناه المولعتان أبداً بالحسن والجمال. كان بيته الذي لا يُغلق بابه أبداً مفعماً بالحب والصداقة ورائحة القهوة وملاذ كل الأصدقاء ينعمون فيه بالسكينة والسعادة والحب والأمان، وسيبقى ذاك البيت الدافئ في خيالنا أبداً نلجأ إليه كلما ضاقت بنا الدنيا. رحل أبو نوار تاركاً لنا وجع الفراق الموغل في أعماق الروح.. وديوانَ شعره الذي اقتطعه من قلبه الذي لم ينبض إلاّ بالحب. لقد أدرك أن الإنسان لا تكتمل إنسانيته من دون الحب.. ولا معنى أبداً لحياة من دون أن ينبض القلب بالحب.. فكان هذا البوح الشعري المتدفق بكل أطياف الجمال.
احتجاجات وجودية
ومن جيل ثانٍ من الأصدقاء كتب الشاعر حسان الجودي انطباعه عن الديوان، فمضى يقول: يبدو المدخل الجوهري للمجموعة هو قصيدة «تجليّات مع النفري» وخاصة المقطع:
وقال لي:
أُدخلْ فيكَ. ولا تُدْخِلْ فيكَ سِواكْ
إنه موقف فلسفي وجودي شعري بامتياز، فقصائد المجموعة هي تنقيب في أعماق الشاعر، وهي اقتحام جريء لعوالم إنسانية مطرزة بالعشق العلني للمرأة الذي يبدو جواز مرور الشاعر إلى الحياة، في القصائد أيضاً احتجاجات وجودية عميقة، وفيها رؤى فلسفية جميلة مشحونة بالعاطفة، ولعل أهم ما تقدمه المجموعة هو هذا التعريف الجديد للشعر، بغض النظر عن الأشكال النمطية السائدة، فقد قدمت المجموعة قصائد متماهية مع شخصية الشاعر العاشق، ولا يمكن التعامل معها وفق نظرية موت المؤلف بل هي حقاً حياة المؤلف الشاعر التي تستمر بعد موته.
فضاءات
ومن جيل ثالثٍ كتب الشاعر محمد علي الخضور، انطباعه قائلاً:

معتصم دالاتي الاسم الذي لا يُذكر الجمال والذكاء والبديهة الحاضرة إلاّ ويذكر كشاهد عليها، صاحب ذائقة باذخة وحس مرهف، طفل نبيل وإنسان جميل، حين كان يُسمعنا شعره كان يقول لنا: «أمام الشعراء أٌقول إنني فنان تشكيلي، وأمام الفنانين التشكيليين أقول إنني شاعر حتى تضيع الطاسة». لكن معتصم كان الاثنين معاً شاعراً وفناناً تشكيلياً، وفي مجموعته الشعرية الموسوم بعنوان «حين أكون عاشقاً» التي طبعها بعد وفاته د. منقذ عبد المعين الملوحي نجد هذا الشاعر الطفل يتنقل بين فضاءات الحرية والجمال، يكتب روحه وقلبه متحرراً من كل ما يثقل شعريته، يمد بساط أحاسيسه لتمشي شاعريته بكل حيائها وخجلها وجمالها تمشي بهدوء لتدخل مهرجان الجمال والفرح وتدخل معها كل القلوب التي أحبت معتصم دالاتي وتعلقت به.
حكمة
ونختتم هذا الاحتفاء بالديوان بهذا الاختيار منه بقصيدة (الوصايا):
شفَّ الوجدُ بقلبِ العاشقِ
فتجلَّى الكونُ بهاءً
لا يُدْركُ إلاّ مَنْ كان بلا دَرَنٍ أسرارَ
خفاياهُ
كان العاشقُ في حضرةِ ذاكَ العشقِ نبياً
يَسْتَجْلي حكمةَ مولاهُ
لا تسرقْ فرحةَ قلبٍ
لا تشهدْ إلاّ بالحبِ
لا تحلفْ إلاّ بالعشقِ
لا تَزْنِ بروحِكَ.. فالروحُ نقاءْ
كانت تلك وصاياهُ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار