بورخيس يُقارب «فن الشعر» بقصيدة.. وهنيدي يُحللها في كتابٍ

“نُحدقُ في نهرٍ من الوقت والماء / ذاكرين أنّ الوقت نهرٌ آخر. / نعرف أننا شاردون كالنهر / وأوجهنا تتلاشى كماء.”
ما تقدم؛ هو مقطعٌ من قصيدة للأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1985)، وهو مقطع من سبعة مقاطع، حاول بورخيس أن يشرح من خلالها «فن الشعر»، وهو العنوان الذي أطلقه على القصيدة نفسها، وهو ما درج عليه أسلوب بورخيس في مقاربته للتعريفات، ولاسيما في محاولاته لتعريف الشعر، حيث كان يهرب من التنظير المجرّد ليُقدم في قصيدة مشهورة يقوم بتحليلها مُبيناً مواطن الجمال فيها، وواضعاً يده على العوامل التي تمنحها شعريتها.
ربما هذا ما دفعه أيضاً إلى محاولة الاقتراب من «فن الشعر» بتحويله إلى موضوع شعري وغرض من أغراض القصيدة، مُعيداً للأذهان كتاب أرسطو الإغريقي في الزمن اليوناني القديم الذي يحمل الاسم نفسه «فن الشعر».
هذه القصيدة التي نقلها إلى العربية مترجمان: خليل كلفت، ومحمد عيد إبراهيم؛ أغوت الشاعر والناقد السوري نزار بريك هنيدي، ليقدم عنها دراسة تحليلية على الطريقة البورخيسية نفسها، وضمنها في كتاب بعنوان «الأبدية الخضراء- دراسة تحليلية لقصيدة بورخيس فن الشعر» وقد صدر الكتاب عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة، وفيه تناول الباحث المقاطع الخمسة الأولى من ترجمة محمد عيد إبراهيم، والمقطعين الأخيران بترجمة خليل كلفت، وذلك لما وجده هنيدي من سلاسة الترجمة لكلا المترجمين.
بورخيس الذي يقول: «بالنسبة لي الجمال إحساس فيزيائي، شيءٌ نشعره بكامل جسدنا، إنه نتاج حكم، لا نصل إليه عن طريق الأحكام، إما أن نشعر بالجمال وإما لا».
“نحسُّ أن اليقظة ما هي إلا حلمٌ آخر
يحلم أنه غير حالم.
وأن الموت
ما نخشاه في عظامنا
ليس إلا الموت
الذي ندعوه كلّ ليلة حلماً.”
يبدأ هنيدي تحليله من عنوان القصيدة – فن الشعر- الذي وجده أنه يستفز القارئ، فعنوان كهذا يصلح لمبحثٍ فلسفي أو دراسة في علم الجمال، أو النقد الأدبي، أكثر بكثير من أن يكون واسماً لقصيدة شعرية، وهكذا فإنّ على القارئ أن يستخلص مباشرة أن الغرض الرئيس للقصيدة هو محاولة الشاعر تقديم مفهومه عن الشعر ورؤيته لخصائصه ووظيفته، وذلك بوسائل التعبير الشعرية من إيحاء وتخييل وتناص وتحريض للذاكرة واستنفار للأحاسيس والمشاعر، وشحن للمفردات والجمل لتتمكن من قول ما تعجز عن قوله في حالتها النثرية.
“نرى في كل يوم وعام
رمزاً لجميع أيام السنة وسنيه.
ثم نحيل انتهاك السنين
إلى موسيقا، صوت، ورمز.”
تأتي دراسة هنيدي لقصيدة بورخيس «فن الشعر» كقراءة في عالم هذا الأديب الاستثنائي في عالم الكلمة، وغايته في ذلك – كما يقول- هي محاولة الوقوف على أسس نظرية الشعر التي يعتمدها بورخيس، فقد كان لابدّ من العودة إلى آراء وأقوال الكثير من الشعراء والفلاسفة ومُنظري علم الجمال، الذين تأثر بهم أو بنى على إنجازاتهم. وفي ذلك أيضاً، لم يخرج – بتقديره-عن المنهج البورخيسي الذي كان لا يرى في العالم غير مكتبة ضخمة.
“نرى في الموت حلماً.
في الغروب
حزناً مُذهباً. ذلك الشعر
ذلول وخالد،
شعر
يعود كالفجر، والغروب.”
يذكر بورخيس: لقد أمضيت حياتي وأنا أقرأ، وأحلل، وأكتب أو أحاول أن أكتب، وأستمتع. وقد اكتشفت أن هذا الأمر الأخير هو الأهم. ومتشرباً بالشعر، توصلت إلى نتيجة نهائية حول المسألة. صحيح أنني في كل مرة واجهت فيها الصفحة البيضاء، عرفت أنه علي أن أعود من جديد إلى اكتشاف الأدب بنفسي. فالشعر لا يقلُّ غموضاً عن عناصر الكون الأخرى، ومادام الأمر كذلك، فإن أحداً لن يستطيع أن يُعرّف لنا الشعر، أكثر من الشعراء أنفسهم.
“في المساء يوجد وجهٌ يرانا
ذات حين من أعماق مرآة.
الفن لابدّ أنه من نوع تلكم المرآة
تفشي لكلّ منّا وجهه.”
اشتهر بورخيس باشتغاله بثلاثة أنواعٍ من الإبداع: الشعر، وله فيه تسعة دواوين شعرية منها: « دفء بيونس آيريس، القمر في المُقابل، مديح الظل، والوردة الغائرة..» وفي القصة، وله فيها ثماني مجموعات قصصية منها: «تاريخ العار العالمي، حديقة الطرق المُتشعبة، وكتاب الرمل»، وكان اشتغاله الثالث: في المقالات والدراسات، وله فيها ست دراسات منها: «استقصاءات، لغة الأرجنتين، وتاريخ الأبدية» كما ابتدع نصوصاً يتداخل فيها أكثر من جنسٍ أدبي.
ضمّ الناقد هنيدي إلى دراسته التحليلية في قصيدة بورخيس «فن الشعر» مجموعة قصائد مُختارة من أربع مجموعات شعرية للأديب الأرجنتيني، أخذت مساحة نصف الكتاب، حتى كادت الدراسة أن تُشكّل مُقدمة طويلة لمختارات من شعر بورخيس، وذريعة للتجوال في عوالم هذا الكاتب أدبياً وإنسانياً، والذي يرى الباحث؛ أن ثمة اهتماماً عالمياً اليوم بأعماله، التي يعتكف النقاد والباحثون على دراستها، كما يزداد إقبال القراء عليها في جميع أنحاء العالم.
وأخيراً نختم بالمقطعين الأخيرين من قصيدة «فن الشعر» لتكون قراءتنا هذه ذريعة هي الأخرى لنشر قصيدة بورخيس «فن الشعر»:

” إنهم يخبروننا كيف أن يوليسيس، مُتخماً بالعجائب،
انتحب بحبّ ليلمح جزيرته إيثاكا من بعيد
متواضعة وخضراء.
الفن هو إيثاكا تلك
إيثاكا الأبدية الخضراء، وليس إيثاكا العجائب”
“إنه أيضاً مثل نهرٍ بلا نهاية.
يمرُّ ويبقى، مرآة لشخص هو نفس
هيراقليطس المُتقلب، الذي هو نفسه
كذلك شخص آخر، مثل نهر بلا نهاية.”

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار