بعتباته الخمسة .. علي الرّاعي يعبر بقدمين من ريح مُتلمساً نبضاً لإنسانية أثيرة

بعتبةٍ واسعة وسع أفقِ بلادٍ لفها الحزن وأضناها السهاد بسبب الحرب الإرهابية عليها؛ يبدأ الزميل الأديب علي الرّاعي أولى عتباته الخمس، في مجموعته القصصية (كعبورٍ عتباتٍ بقدمين من ريح)، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وهي (عتبة حزينة) لأمٍّ أرداها الانتظار بعينين معلقتين بالمدى.. عينٌ على ولد وأخرى على وطن.. لم يشفع لها الرجاء ولا عيناها الحالمتين باللقاء، حيث تقطّر ساطور عدوها من دمها الأزرق.. وعلق بقايا أحشائها شاهدة على بلادٍ، ثمة من يُحاول أن يمضي ربيعها إلى خريفٍ.
(أمومة
قبلَ
أن يغرزَ الداعشيُّ نصلَ ساطوره في أحشائها
توسلتّه برجاءين:
الأول: أن يتركَ عينيها مفتوحتين، فهما تبحثان عن ابنها المقاتل في أرض الميدان منذ زمن .
و.. الثاني: أن لا يلتهم فؤادها،
لأنّها
تُخبئُ فيه حبّاً عارماً لسوريّة .)
وأمام (القتلة) الذين يحيطون بالبلاد من أربعة أركانها، وسقف سمائها؛ وحدها الحقيقة المصلوبة، والكلُّ يتبجحُ بأنه أصابها في مقتل، وها نحن على خطاها نسير مقتولين بدمٍ بارد.. فهل سيعترف أحدٌ بسفك دمنا وقتل حلمنا كما فعلوا بها؟؟
(القتلة
سددَ القومُ سهامَهم جميعاً، و.. بلا استثناء صوبَ ” الحقيقة ” يُريدُ الكلُّ اصطيادها، و.. أعلن كلٌّ منهم بما يُشبه اليقين أنه أصابها بمقتل . !
أكدّ البعضُ أنه أصابها في ” كبدها “، و الآخر تبجحَ إنه رماها في ” عينها “، و.. ثالثٌ قال: إن رميته كانت في ” قلبها ” . !)
وبثقافة الكاتب الغائرة في التاريخ؛ أعاد ترتيب الزمان، لينبئنا أننا أمام مجازر سيكررها التاريخ بحق قوم ذنبهم أنهم وجدوا مصادفةً في عين عاصفة الأدلجة الفكرية.. وسلالة شهداء تسلم راياتها تباعاً من جيل إلى جيل، (قصة مقام الشهداء).
وبـ(نوافذٍ زرقاء) طلاها القومُ منذ زمن بعيد لحماية الدور من غارات العدو؛ كانت الفجيعة تجاهل النوافذ ودخول كل أعدائنا على هيئاتٍ متنوعة من بوابات الدار بكلِّ رحابة غدرٍ، لينهي الكاتب عتبة حزنه المليئة بوهن السنين والحرب والشهداء، والقهر والأسى بومضةٍ مُبهرة تُمهد لـ(عتبة الحياة) التي تليها.
وقد أدهشنا الكاتب الرّاعي بحسن تنقله؛ ما بين بلادة واقعٍ مرًّ، وعتبة حياة، ولدت من تحت الرماد، وقد ترك جسراً للتواصل بين العتبات دون أن تغلق الأبواب.. وكانت الومضة الفاصل بعنوان (دنيا) هرع إليها من يرى أن الحياة يجب أن تعاش بكلّ دفءٍ، بين الأحضان لأذرع مفتوحة طالما أنه مقتنع بقصر وقتها، وبزوال نعمة الدفء فيها.
(معركة طويلة
بقلبهِ الكامن بالغدر،
حاولَ العنكبوتُ النيلَ منهم،
فتحدّوه
ببيته الواهي .. !)
وبـ(عتبة الحياة) التي تلت العتبة الحزينة؛ افتتح  الرّاعي عتبته الثانية بالقصة القصيرة جداً (الأعمى)؛ قصة متفوقة اجتماعياً، وناضجة أدبياً، بدأ فيها الكاتب بتضمين بيتٍ شعري يخدم فكرته بإتقان، (رأيت المنايا خبط عشواء\ من تصب تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم) للشاعر زهير بن أبي سلمى، وأمام هاجس الخوف الدائم من الموت؛ وضعنا الكاتب وجهاً لوجه أمام شخصية اتخذت من الإندساس بين الحشود سبيلاً لطرد فكرة الموت، علها تخطئه دائماً وتنال من أنفاس غيره، على اعتبار أن الموت كان أعمى، وبإمكان شخصية النص الهروب منه، غير مدركٍ في آخر الخيارات؛ إن الموت قد يكون عاصفة عمياء تحتضن بين ضلوعها جمهرة أرادت أن تلعب لعبت لعبة الغميضة معه بهجرةٍ على قوارب الموت تذْكَرتُها مدفوعة الأجر؛ رحلة من الموت إلى الموت.. نصٌ متخمٌ بالتكثيف، مليء بالإيحاءات والدلالات، مضغوط بقضايا اجتماعية ونفسية وإنسانية حد الانفجار.. نصٌ كفيل بعمقه وكثافة إيحائه أن يفصّل ويدوّن في رواية كاملة.. فحقق مشهدية رائعة، بمفارقة نصيّة مذهلة، أضف إلى التضاد الخفي والظاهر الذي حرك دينامية الصور والمشاهد، واللغة المياسة التي خرجت عن معناها المعجمي وأعطت دلالات وإيحاءات فارهة، ربطت الحالة الشعورية واللغوية ببراعة متقنة، وكانت الخاتمة صادمة، وأشبه بتيار صاعق إذ استخدم الكاتب لفظاً غلّق فيه نصه، محدثاً صعقة لغوية وحسيّة قد يطول مداها في الذاكرة وقتاً لا يستهان به بـ(ثمة أعمى يختار الجميع)..
(فزاعة
على الأسطحة، و.. في الحقول،
تهترئُ فزاعة الطيور، بوحشة وحدتها،
و.. على وقع المرارة، والخذلان
كانت سخرية الآخرين تأكل  وجهها؛
اليومَ فقط؛
تأكدت أنها خُدعت بـ “جودة” العود الذي يلبس .. !)

وما بين الـ( ق ق ج) و(الومضة) بأرانبٍ وفزاعات، وغيرهما من عناوين لنصوصٍ خاطفة، وقطع الغصون اليابسة من شجر الحياة حتى باتت شجرته عارية من الأصدقاء والأحبة، يابسة، ومحتضرة، فيما طائر الحوم مايزال يقضي جلّ وقته مهاجراً بين الأمصار باحثاً عن دفءٍ بارد، وتاريخ مجلبب بخيباته، وهو قائمٌ حتى مطلع الدهر؛ تصهل خيوله صباح مساء.. لتنتهي عتبه الحياة بفراسةٍ ورثها عن جده في أدغال صدور الخلائق، ليكتشف أنه بإمكانه رؤية حيوانات لم تسنح له الفرصة لرؤيتها حتى في حديقة الحيوان..
ببراعة يستخدم الرّاعي تقنية التناص والتضمين والإضمار والنهايات اللاذعة الساحرة مثيراً دهشة قرّائه، ومذيّلا عتبة الحياة مسلماً  إيانا  لـ(عتبة الحنين)، وموقعاً بنا سهواً أو عن عمد  في كمائن الذاكرة، ويجعلنا الكاتب نتخطى هذه العتبة التي تعجُ برائحة الذكرى والماضي السحيق لقرى سطا عليها النعاس، ولف ليلها الأساطير، إذ بدأها بطفل شاغلته نفسه الأمارة بالعد لنجوم السماء، لتنهره جدته أن مكان كل نجمة ستنبت فوق أصابعه ثألأة (زوائد لحمية تطفو على الجلد)، وتحكي له عن نجمة الصبح العشيقة غير الشرعية للقمر، تحرسه بعد أن تنال منها الغيرة العمياء، وقصة النجوم؛ ابتداءً من نجم سهيل وانتهاءً ببنات نعش، لينتهي النص بلسعة ودهشة مذهلة لطفل غفا وأصابعه تائهة في حيرة العد باحثاً عنها تلك التي غفت على وهن المساءات وعدّ نجومها، ثمّ ليعيدنا، ويأخذنا على درب العين، وتلك الأحاديث والأقصوصات التي كانت تصلنا عن فحولة رجالاتها على طرق العين، وقصص النسوة الغارقات في آتون الشقاء، فاضلات الهيئة، باحثات عن أنوثة مغيبة بحكم ما تبقى من هيئة رجال..
(منزل
فكّر.. وهو الرومانسيُّ، والشاعريّ جداً؛
بشكلِ منزله، الذي سيبنيهِ على أرضهِ الجميلة .
قال: سأبني أولاً ” قبواً ” للحيوانات،  وأقيمُ فوقه منزلي الجميل .
بعد حينٍ
أنشأ قبواً، و.. أقام فيه حتى مات .. !!)
و(كمواويل) أصاب صاحبها بعنة شطرها الثالث، لتتقفى كل السهرات بموالٍ مكسور الخاطر دائماً بـ(لاسؤال ولاجواب)، ولتنتهي (عتبة حنين)  بثلاث قصص من الطراز الرفيع والمتفرد، تأخذنا بسحرها إلى عوالم لم نكن نتوقع أن يتجرأ كاتب على الغوص فيها..
وفي (عتبة حنين) استطاعت حسب تقديري قصة (وجوه) أن تنال مكانة ملكة العتبة بامتياز؛ إذ استطاع الكاتب أن يتخمها بالإيحاءات والدلالات الفائقة الجرأة، مع شخصية محورية وهو ماسح الأحذية.. حملّه الكاتب ثقلاً يفوق حمله الفكري.. إذ جعل حكمته متركزة فيما بين يديه.. فسمات من يتعامل معهم من الأحياء في أحذيتهم، وتنوعت وجوه الأحذية بين شقية، ومدللة،  ومنافقة، وتقية.. عاكسة حال وجوه أصحابها في تزاحمٍ مع الحياة، ليتفرد الكاتب بذكاء ولغة ثرية في تصنيف وجوه المارة من خلال أحذيتها.. وتصير حكمة ماسح  الأحذية (قل له أو دعه يرى أي شكل من الأحذية تنتعل ليقل لك من أنت..) إذ استخدم الكاتب تقنية التناص. بإحالة  نصه إلى نص آخر له مكانته وعظمته في مكان ما (قل من تعاشر أقول لك من أنت) وآخر فلسفي لسقراط..( تكلم حتى أراك)..
ومسلماً الكاتب إيانا لـ(عتبة الحب) جنونها ومغامراتها.. بشوقها وحنينها، ومواسم الريح، وجنحة الحب فوق العتبات، وقصيدة ولدت من رحيق القبل، ولثم حروف العناق.. وعناوين ضاعت على زجاج النوافذ المغطى ببخار الحب، ذهبت بلا إغلاق، ومن العتبات التي سيطرت على الكتاب تستوقفنا عتبة (النذر) في تناقضٍ محموم لزوج نذر خروفاً لينال حبيبته زوحة، ولعاشق نذر خروفاً لترحل عنه.. وأمام عتبات التضاد يسكرنا مشهد يسحر اللب لصورة أكسبها التضاد دينامية حركية عبرت عن حالة التوتر الرهيب للحالة الإنسانية المتفردة والمتناقضة النابعة من الذات البشرية، وبمشهدية مثيرة..
(مواسم الريح

في مواسم الريح، و.. على همس قريةٍ سطا عليها النعاس؛ كانت تتنازعه مشاعر باتجاهين، أن يُبقي أحد طرفيه بين أصابع صبي وبنت ينشغلان بأمر تطيير طائرة ورقية، وتأمين حرارة ليدين تشغفان للتلامس.. فيما قلب خيط الصوف الذي جدلتّه أم الصبي من كنزةٍ عتيقة معلقٌ بأذيال طائرةٍ ورقية يخشى عليها الضياع في مهبّ الرياح؛ يتوترُ حيناً، ينقبضُ طوراً، و.. أخيراً ينسلُّ ملموم الذيل من أصابعٍ انشغلت بحرارة التوق، مشدوداً مع الريح خلف طائرة أتعبها الخوف من فضاءٍ مهيب؛ هناك صارا يراقبان نهارات لا تكلّ الدوران على الأرض الهرمة.) في قصة (عراك) أيّدَ تحوّل عراكها من تشابك إلى تلاصق منتهيا  بتلاسن حتى مطلع الفجر.. وأمام مشهد (بروفا)؛ يصير للحب أجنحة وللعشق حكايات، وببيادر وفاتح يدخل المدن من قلوب نساءٍ أحبها، ومقعد كان قد وقع في شرك الحب، ونوافذ الياسمين والحبق، وفداء مع خريف واستعراضٍ لأرتال الأنوثة التي تصيب الشخصية القصصية في غثيان العشق ودواره.. ومابين امرأة تنتظر، وامرأة تحب الجلوس قرب المدفاة؛ حكاية عشق للهيب النار، تنوعت العتبات وفاحت رائحة الذكريات، وفي ذهولٍ دائمٍ يضعنا الكاتب غير آبه بسطوة الحرف، ومشهدية الحدث التي تفتح الأفق أمام المتلقي وترديه  صريع العشق المقنّع، وبمشاهد حميمة تثير حماسة المتلقي وتصيبه بحمى تعرّقه؛ أغلق الكاتب (عتبة الحب) راكباً صهوة جواد الحيرة بآخر العتبات، والتي ما فتئت أن تكون متممة لعتبة الحب بخيبات، وكسر خواطر..
وعناوين سطت بعفوية على جمال المشاهد وانسيابيتها، ولكلّ نص فرادته، مشهديته، وتكثيفه، وألفاظه الثرّة الغنية، حكائيتها، وتكثيفها ومشهديتها: (يباس، حياكة، بقايا) وهناك قصص (عراء، أمواج، قوارير، روائح، رصيد..)، وغيرها من العناوين التي تستفذّ ذائقة المُتلقي وحواسه ليسبر أغوار نصوص غارقة في الواقعية والجمال وأوجاع الحب والحياة، والعتبات المتناثرة على كل الأرصفة.
(بستان
عند مدخل بستانه الذي طالما حلم بتحويله إلى غابةٍ من الأشجار، غرس شجرتين، زيتونةً على اسم والدته، و.. ليمونةً على اسم زوجته .
بعد حينٍ؛
غرسَ في الطرفِ المُقابل تفاحةً على اسم حبيبته.. ثم غرس جوزةً على اسم ابنته ..
بعد حينٍ ليس طويلاً، صار الحقلُ غابةَ نساء .. !)
وأخيراً؛ علي الرّاعي؛ كاتب من طينة عالم الشعر المترجم في ومضاته الثرية المدهشة، ومبدع في عالم القص النثري المتمثل في فن الـ(ق ق ج) بعناوين لعتبات نصية تشرعّ الباب لتجاوز عتبة العناوين ببراعة تماماً (كعبور عتبات بقدمين من ريح)؛ مجموعة قصصية، بمثابة وثيقة ممتعة لفن الوجيز بنثره القصصي ووميضه الشعري، بالتكثيف والعمق واكتشاف طاقة المفردة واستخدامها في موقعها المربك، حيث بنيت النصوص على لغة متينة باستخدام ما ترمي إليه الألفاظ بجوهرها لا بظاهرها، و(بعمق معناها وإيحاء دلالاتها وقصر تراكيبها وحدة تكثيفها..)، ومن خلال تقنيات التضاد والتوازي وترتيب البنى التركيبية على مستويات الإيقاع والصوت والموسيقا، تاركاً للمخيلة أن تعيث نشاطاً في فكر المتلقي.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار