“آغاغوك”.. الرواية التي تفوقت على “نانوك رجل الشمال” كفيلم سينمائي
تشرين -حلا خيربك:
“آغاغوك” رواية موجودة حالياً في المكتبات، تتحدث عن شعب الأسكيمو في الأربعينيات، وإن كان فيلم “نانوك رجل الشمال” للمخرج “روبرت فلاهرتي” قدم حياة الأسكيمو بشكلٍ وثائقي في سنة 1929، وكان بمثابة ثورة حينها، غير أن الرواية والتي صدرت بعدها بعقود تفوقت على الفيلم في تقديم حياة إنسان بعدما ظهر الفيلم والسينما، وكان لا بد للرواية أن تتطور بتقنياتها، لأن الرواية تتحدث عن دواخل الإنسان…
وببساطة بالغة تقدم الكاتبة إيف تيريو “أغاغوك” بطل قصتها، رجل الأسكيمو ابن زعيم القبيلة الذي يتمرد على بعض عادات وأفكار قبيلته ويخرج ليعيش وحيداً في العراء الشاسع، حيث يبحث عن مكانٍ مناسب للعيش حسب خبراته، ثم يعود للقبيلة ليتخذ لنفسه منها زوجة “إيريوك” التي لم تعرف رجلاً قبله، وبعد ذلك يؤسس حياته معها في العراء الخالي من أي شجرة أو ارتفاع… الخالي إلا من الشمس ونجوم الليل والريح، تماماً كما لو كانا آدم وحواء.
وهنا سنكتشف أن حياة الأسكيمو آنذاك كانت جداً متقشفة وبدائية، وأقرب ما تكون لحياة الإنسان الأول، حيث يتقن آغاغوك تأمين مسكن من جلود الحيوانات صيفاً ومن الجليد شتاءً، ويعتمد في تأمين معيشته على الصيد، حيث يقوم بتجفيف اللحوم أو يدخنها ويتدفأ على شحومها، ويلبس من جلودها أيضاً، بل إنه يقايض أو يتبادل الفرو الذي يجمعه من صيد الثعالب والدببة وغيرها مع البيض كما يسميهم، والبيض هم الناس الذين يعيشون في أرض الأشجار ولديهم بيوت وشرطة وقانون وكل الأشياء التي قد يرغب ببعضها الأسكيمو، كالملح والبنادق، والملابس والأواني وغيرها..
“أنت تعرف ياراموك أن البيض أناس مقتدرون وحاذقون.. لديهم ضروب من سحرٍ عظيم… يتحدثون عبر المسافات، يطيرون في الجو، يثبتون وجوهكم على الورق… إنهم يعرفون كلّ شيءٍ، ويكشفون كلّ غيب… والشيء الذي لا يكشفونه، يكشفه لهم سحرتهم.. فهل تعتقد حقاً بأنك تستطيع أن تغلبنا؟”
كما تنجح الكاتبة في تقديم الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة والرباط المقدس بينهما بعيداً عن أي دين أو عادات أو لغة وإنما بالفطرة، وكيف يتبادلان الأدوار أحياناً ويتعاونان ليقيما منزلاً ويؤمنان أسس الحياة.. ومن ثمّ عندما يحصلان على الأمان والغذاء ويكتسبان التقدير والقيمة الاجتماعية؛ تلجأ قبيلة آغاغوك في النهاية له ليتولى زعامتها، وبعد كلّ ذلك تظهر أهمية الأخلاق.. الأخلاق التي فطر عليها الرجل بحمايته للمرأة والمرأة بطاعتها وتقديرها للرجل حتى في حالات ضعفه، ومن ثمّ تمكنهم معاً من كسر العادات والتقاليد، وهكذا تتطور الإنسانية إذاً بدءاً من المنزل، بدءاً من الرجل والمرأة والحب المتبادل بينهما، في أي زمان ومكان.
“هنا في أثناء العواصف الثلجية في وسع المرء أن يخرج ببساطة للذهاب من منزل إلى آخر دون أن ينتبه إلى أنه قد ينجرف إلى اتجاهٍ آخر خطأً، ويضيع في الزوبعة البيضاء، ويموت قبل أن يُعثر عليه… وكانت هذه الحالة تتكرر من حين لآخر، إذ إن أكثر من رجل أبيض من سكان القطب ما كان يجرؤ على إخراج منخاره إلى الشارع، أثناء العاصفة، إلا في حالات الطوارئ الخطيرة.”
من دون أي تكلف تبدأ الرواية ببساطة وبأسلوب بسيط يتناسب مع بساطة الحياة وتفكير الإنسان في تلك المنطقة، وتسير بنا ببساطة حتى النهاية ونحن لا ندري هل نتابع القراءة بشغف لجمال القصة ولاسيما شخصية المرأة فيها (إيريوك) وعوالمها الداخلية أم السبب أن القصة تكشف في كلّ صفحة جزءاً من الحياة الغريبة جداً لهؤلاء الناس وعاداتهم… أي سكان رأس الأرض! والذين يعتقدون أن أي تكنولوجيا لا يعرفونها كالهاتف أو الطائرة أو الدواء هي السحر!
“الرجل الأبيض، يؤنب، يرعب، يستحضر الأرواح الشريرة. إنه لا يقول الحقيقة دائماً. كاكريك وهو إينوك من قبيلة “تيردو بافا” اقتيد إلى المدينة لأنه قتل أخويه. فأشاع واحد من البيض الخبر في قرية كاكريك، قائلاً بأن البيض قد أعدموا الإينوك ولكن بعد مضي عشر سنوات رجع كاكريك. وإذ صدقت زوجة كاكريك الأقوال، فقد تزوجت ثلاثة رجال في غيابه، مات الأول فعاشت مع الاثنين الآخرين، وأنجبت منهما عشرة أطفال، عاش منهم ستة، إضافة إلى ستة من كاكريك، الأمر الذي تسبب في أزمة، فقتل كاكريك واحداً من الزوجين وثلاثة من الأطفال، ولم يتوقف كاكريك عن مذبحته حتى أخبروه بكذبة الأبيض.. أما زوجته فظنت نفسها حرة فكان من الطبيعي أن تتخذ لها أزواجاً آخرين، وفي المقابل فقد رأى كاكريك بأن اتخاذها ثلاثة رجال عوضاً عنه، إنما يعد على أي حال، دليلاً على فحولته الفائقة… وكان على الزوج الأخير أن يصطاد مضاعفاً إذعاناً لأوامر كاكريك.. وألا تزوره زوجته سوى مرة في الأسبوع، وكانت اللعبة الجنسية تتم تحت رقابة كاكريك الذي كان يشترط على الزوج أن يظهر شديد لهفته.”…
إذاً لا شيء يمكن أن يتفوق على الرواية الجيدة، الرواية التي تدخل إلى عوالم الإنسان الداخلية، لا السينما ولا أي شكل فني آخر..
يُشار أخيراً إلى أنّ رواية ” آغاغوك” صادرة عن دار الحصاد بدمشق، بترجمة للدكتور محمد عبدو النجاري.