المآل الأخير القصة القصيرة المنهكة بين “براثن” الأفعال الماضية!!
تشرين- علي الرّاعي:
ربما يكون اليوم «فن القصة القصيرة» من الأنواع الأدبية، الذي بقي وحده، ذلك الفن الضّال في حركة الإبداع العربي، وذلك منذ أكثر من ربع عقدٍ من السنين، القصة التي تبدو اليوم فناً نزقاً، ومغتاظاً، في وجه مقولة – وهم، من إن “الرواية ديوان العرب” التي قالها ذات حين روائيٌ عربي، ومضى.. وهنا أعود للأديب نضال الصالح الذي رحل عن دنيانا منذ مدة وجيزة، فقد كان سجّل ذات حين، ووثق صدور أكثر من خمسمئة وتسع وعشرين مجموعة قصصية خلال النصف الأول من عقد التسعينات من القرن الماضي في سورية وحدها، وذلك في كتابه “قص التسعينات” سنة 2005، أي ما مقداره، صدور مجموعة كل سبعة أيام.
زخم التسعينات
وفي تعريفه بالمشهد القصصي العربي، يُقدّم الصالح كتاباً آخر “قبل فوات الحكاية ” – دراسات في القصة العربية القصيرة”، وخلاله يتلمس برؤية جديدة ملامح هذا المشهد الحكائي، بأخذ مقاطع عرضانية وطولانية من الإصدارات القصصية في العالم العربي، ليُقدّم من خلال هذا الجزء بما يشي ب”الكل”، وذلك بثلاثة مداخل، الأول: إلى القصة القصيرة في سورية، والثاني: إلى مثيلتها في الخليج العربي، والثالث كان توءمهما في المغرب العربي، وفي تتبعه للقص في هذه الجغرافيا، يقترب الصالح صوب حقل التأريخ والتأصيل، أكثر من ميله إلى حقل النقد الأدبي، واهتمام الباحث في هذا المجال، لأنه يرى أنه “في زمن، يكاد يكون قياسياً، تمكنّت القصّة القصيرة، من تمثّل غير مرحلة من الإنجازات التي أبدعها الفن القصصي منذ نشأته، ومن تحقيق قفزات نوعية في نحو ثلاثة عقود من تاريخها، بينما استغرقت رحلة سواها، في غير فضاء إبداعي، نحو قرن لتصل إلى ما وصلت عليه.”..
بدايات الربيع والخريف
حيث يحصر الباحث نشأة فن القصة في سورية، من مجموعة الكاتب السوري علي خُلقي “ربيع وخريف” – 1931 ، كأول مجموعة قصصية سورية، ثمّ ما لبث النتاج القصصي السوري، أن تتابع بعدها راسماً خطاً بيانياً متصاعداً بلغ ذروته في العقد الأخير من القرن العشرين. ومن تلك “النشأة” التي تبدأ من بداية الثلاثينات إلى نهاية الأربعينيات، وبعد ذلك يتلمس الصالح الكثير من الانعطافات في مسيرة تطور القصة السورية، مراحل حاول الباحث تحقيبها ب”مرحلة التأسيس: الخمسينات، مرحلة التأصيل: الستينات، مرحلة التجريب: السبعينات، ومرحلة التمثّل وإعادة الإنتاج: من بداية الثمانينات إلى نهاية التسعينات، ومن نافل القول هنا إنّ ما سبق من تمييز، هو إجراء نقدي فحسب، فليس ثمة حدود قطعية بين مرحلة وأخرى، كما أنّ كلّ مرحلة لا تُمثّل كينونة تاريخية جمالية مستقلة تمام الاستقلال عمّا سبقها، أو عمّا يليها.
وكان شتاء النهاية
غير أن المحنة أنه ورغم كلّ هذا الثراء في السرد القصصي، تبدو القصة القصيرة، وكأنها وصلت إلى مرافئها الأخيرة، وهي اليوم تكاد تصبح من الأجناس الإبداعية التي أُكلت أو افترست من قبل أجناس إبداعية أخرى لاسيما منذ تسعينات القرن الماضي إلى اليوم، وذلك بعد ظهور ما اصطلح عليه بالقصة القصيرة جداً، الفن العريق في الكتابة لكنه حديث المصطلح نسبيّاً، بمعنى كانت (القصة القصيرة جداً) موجودة منذ قديم الكتابة أما بشكلها المستقل كما فعل الحكيم (إيسوب) في الزمن الإغريقي القديم والقصي إلى ما قبل الميلاد عندما راح يصوغ حكايات قصيرة مفعمة بالحكمة على ألسنة الحيوانات والطيور، أو أن “الحكائية” قُيلت في نصوص أخرى بعيداً عن المدونة السردية كما في الكثير من القصص الشعرية قبل الإسلام وبعده، عندما كان شاعر القبيلة أقرب إلى “وكالة أنبائها”، يروي قصصها وينقل أخبارها شعراً..
هذا الاتجاه القصصي الذي ظنّ البعض أنه شكّل انعطافة في مسيرة القصة القصيرة، غير أنّ الحقيقة المؤلمة، أنه وبعد مضي ربع قرن وربما أكثر على مصطلح القصة القصيرة جداً، والذي اختزل إلى (ق ق ج)، كانت الفاجعة أنّ هذا الإبداع الذي وسم على أنه جديد اضمحلّ هو الآخر وأمسى مقتولاً “رفساً” بين حوافر الفعل الماضي الذي ركب متنه عشرات من يدعون القص، فكان أن وصلنا إلى أن لا قصة اليوم بالمعنى المتعارف عليه، أو هي في حدّها الأدنى أو في الحيز الضيق منه، ثم كان أيضاً أن أقفلت الأفعال الماضية أبواب ال(ق ق ج)، وختمتها بشمع التلغيز والاستسهال والترهل والهراء، رغم كل “قدّها” القصير والصغير، والحديث يطول أيضاً..