رحل الشاعر «محمد الفهد» فعزف الفقد موسيقا كل المواجع ..!
ما لم نتوقعه أن ترحل في اليوم العالمي للشعر، فرحيلك يا صديقنا محمد الفهد هذا، يُعيد فتح السؤال: هل يُبقينا الشعر فيما توهمنا فيه..؟! من أين لنا بإجابة يا صديقنا الشاعر؟ هو امتحان آخر أوقعتنا به ومضيت غير آبهٍ بعثورنا على إجابة أو على إضافة مفاعلات أخرى للسؤال، وكنت قد ختمت قراءاتك الشعرية بقراءة قصيدة ” شهقة الوقت” من ديوانك “حبر الغياب” الذي صدر قبل رحيلك بأيام، والمهداة إلى الموسيقي الراحل هشام الصوفي، قرأتها لنا بتحريض من السيدة عقيلتك، وكنتَ تحاول الهروب من عدم إكمالها، فنمازحك أن من يغني الموال لا بدّ أن يدخل في الأغنية، فكنا آخر اثنين استمعنا لصوتك وشعرك وموسيقا روحك، من دون أن نعلم أنها ستكون آخر أمسية لك.
وأعترف أنني لم أجرؤ على تسجيل صوتك توجساً من رحيلك بعدها، رغم أنني هممت بفعل ذلك، ولم أكن ألمس أنك الذي قمت بتحدٍ كبير عند تأسيس أسرتك ستستلم للموت بهدوء أعصاب من دون إصرار على تحديه، خلاف عادتك في مسيرة حياتك..! ولك أن تعرف بأنني لم آخذ على خاطري منك لأنك لم ترضَ أن تكلمني هاتفياً وسمعتك تقول “بعتذر” وكانت هذه آخر كلمة أسمعها بصوتك قبل رحيلك بثلاثة أيام، لكنني أخذت على خاطري منك لأنك لم تفِ بوعدك ،ألم توافقني على زيارة الناقد حنا عبود، حالما يتم تأمين سيارة، بالقول “إي بروح فأنا أحب هذا الرجل”، كما أنك لم تنتظرني بضع دقائق لأصل وأراك قبل أن تقطع تذكرة الرحيل وتمضي بالهدوء الذي آثرته تاركاً لنا موسيقا فقدك تعزف كل المواجع، ومن دون أملٍ أن أسمع مرة أخرى ترحيبك المعتاد بي “هلا عمّي نضال” التي لا تزال موشاة بنكهة لهجتك البدوية..!
تحدّي الأعراف
أحبّتك حمص بمقدار حبك لها لأنك اخترتها سكناً، وأنت المولود في وادي العيون من سيدة ارتبطت برجلٍ قادم من دير الزور ومن عشائرها التي تفيض وداً وكرماً، كنت صريحاً بآرائك في الشعر ولا تعرف المهادنة، ولم تجافِ أحداً لأنك غير معجب بشعره أو بفنه. وعملك الصحفي في برنامج “هنا حمص” الذي كان يعدّه ويقدّمه الشاعر عبد الكريم الناعم لإذاعة دمشق، يثبت أنك تعاملت بحبِّ مع معظم مبدعي المدينة بتعدد ألوان إبداعهم، دخلت بيوتهم بتنوع شرائحهم العمرية، وأجريت معهم حوارات ولأكثر من مرة حول أعمالهم، فأمسيت سدىً لذكرياتهم، سيتنادم بها من لا يزال على قيد المحبة والحياة، وكم كنت صانعاً ماهراً لجلسات فرح وشعر في بيتك في حمص وفي وادي العيون، تعارفنا وتنادمنا واختلفنا واتفقنا وضحكنا وغنينا ورقصنا، على اختلاف مشاربنا وشرائح أعمارنا، ونحن ننسج أوهامنا أو أحلامنا، لعلنا نتخفف من أوجاعنا.
فصول عشق ورماد
أصدر الشاعر الراحل محمد الفهد أكثر من عشرة دواوين شعرية أغلبها عن وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب، امتازت قصائده لفترة طويلة بذات الحجم المطوّل، قبل أن يخوض التنويع في الحجم، وقد مزج في بعض قصائده بين أوزان القصيدة على نظام البيت، وبين القصيدة على نظام التفعيلة التي كان قد انحاز لها بعد فترة وجيزة من حياته الشعرية، وقد خصّه الباحث والناقد عطية مسوح بفصل في كتابه “منارات شعرية” تناول فيه ديوانه “من فصول العشق والرماد”، يقول الباحث مسوح: وليست مواجع الشاعر محمد الفهد مواجع فرد يرى البؤس فيتألم، وإنما هي مواجع مدينة وشعب، يصوغها أنيناً تحمله الحروف، وتنوء به الكلمات التي لا يمكن إلاً أن تأتي أضيق من المعاني وأقصر من الأحاسيس، لكنها تنجح في رسم لوحة تكاد تكون كاملة السواد، لولا أن الشاعر، بالتفاتة منه إلى الخلف، يجد بصيصاً من الأمل، فذلك الماضي الجميل لم يبتعد كثيراً بعد، ويمكن لنا أن نأمل بعودته أو بالعودة إليه كما يأمل الغريق بخشبة خلاص، ولذلك إن أهم ما يجده القارئ في تلك المواجع هو أنها تُحيل إلى الماضي، الذي هو المثل، هو صورة الحال المرجوّة بديلاً للحاضر المؤلم، حاضر الموت والخراب، ويقول في موضع آخر: يوسّع الشاعر في القسم الأخير من مجموعته منابع أسئلته وأطيافها، ويُشرك فيها الماءَ والتاريخ والجغرافيا، جامعاً في كل قصيدة بين الذكرى في (سؤال الماء) أو الماضي الحيّ في العقل والوجدان في (سؤال التاريخ) أو الماضي القريب المتمثّل بالحارات والشوارع في (سؤال الجغرافيا)، وبين الحاضرِ، الحاضر المأساويّ، والأمل الباهت المتأرجح بين الموت والحياة. ويتّضح للقارئ أن مصدر ما تبقى من الأمل هو الماضي، سواء كان تاريخاً أم ذكريات. كما أشار مسوح إلى أن قارئ شعر محمد الفهد، يجد أن الكثير من مقاطع قصائده يقوم على تركيب صورة من صور متتابعة، بما يشبه اللوحة.
عمْ جَمالاً
وأخيراً نختم بما رثاه صديقنا الشاعر حسان الجودي بهذه القصيدة الجليلة:
أيها الطين ترفَّقْ/ ربَّ ثاوٍ جاء مُرهقْ/ ضُمَّ كفيه برفقٍ/ ثمّ غطّيه بزنبقْ/ قل له أهلا بقلبٍ/ جعل العالمَ أزرقْ/ ضخَّ فيه ألفَ نهرٍ/ وهو في حزنه يغرقْ/ قل له أهلاً بكَرْمٍ/ هو في الشعر تعتّقْ/ فروى منه حضوراً/ وغياباً كان أسبقْ/ عمْ مساءً وصباحاً/ عمْ ربيعاً يتفتقْ/ يا صديقي عمْ جَمالاً/ ظلَّ من صوتك يُخلقْ/ أيها السهم الذي أرداكَ !/ قد أرديتَ مُطلقْ/ فصديقي في عيوني/ وبه أبصرتُ أعمقْ/ وصديقي في دمائي/ يا لوعي كم تدفّقْ/ وصديقي في نسيجي/ إذ جهاتي تتمزّقْ/ فوداعٌ ولقاءٌ/ واشتياقٌ يتعمّقْ/ أيها الطين سلامي/ نافخُ الشعر تأنّقْ/ حمل المزمار دهراً/ رغم أنَّ الكون مُغلقْ.