شريكان في بناء الحركة المسرحية أم نِدّان متخاصمان؟
التجمعات المسرحية الخاصة والمعهد العالي للفنون المسرحية
لماذا انتشرت «التجمعات الفنية للتدريب المسرحي»؟ هل بسبب إقبال الشباب على هذا الفن وتنويعاته من فنون الأداء، أم هي نوع من موضة دارجة، أم باب مِن أبواب الاستثمار المالي لأصحابها؟ وهل هي تجمعات ترفد المعهد العالي للفنون المسرحية وتخفف عنه أعباءه أم تُهدد دورَه بوصفه المؤسسة الرسمية الأوْلى بمهمة التدريب المسرحي الأكاديمي؟
هي أسئلة طرحناها على ثلاثة مُختصين في هذا الشأن مع مناسبة اقتراب «يوم المسرح العالمي» فتحدّثوا لـ«تشرين» بأفكارهم:
يقول الدكتور سمير عثمان الباش الحاصل على شهادة دكتوراه في علوم الفن باختصاص إعداد وتدريب الممثل وماجستير في الإخراج الدرامي من الأكاديمية الروسية للفنون المسرحية: المجتمعُ بحاجة دائمة للتجمعات الفنية، ولكنْ يجب عدم الخلط بين «الدورات التدريبية الموسمية» التي تُقام لهدف مؤقت وبين «التجمعات الفنية الدائمة»، فالبعض يقيم دورات تحضيرية للراغبين بدخول المعهد العالي للفنون المسرحية، وآخرون يعلنون عن دورة تدريبية من أجل انتقاء ممثلين جدد للاشتراك في مسلسل أو مشروع فني ما، وأحياناً يتم الإعلان عن دورة تدريبية يصعب أصلاً تحديد الهدف منها! مدة هذه الدورات لا تتجاوز الشهرين عادةً وتكثر غالباً في فصل الصيف قبل امتحان القبول في المعهد، ولكن يصعب وضع كل هذه النشاطات في سلة واحدة، وتالياً فيما يخص هذه الدورات التدريبية أستطيع الإجابة بنعم عن كل الأسئلة التي وردت في سؤالك، أي إنها تقام أحياناً بسبب الإقبال و«الموضة»، ويستغل البعض هذا المجال لكسْبِ المال، ويعمل آخرون في التدريب المسرحي بسبب عشقهم للمسرح وإيمانهم بأهميته في المجتمع.
يشاركه في هذا الرأي الدكتور ماهر الخولي عميد المعهد العالي للفنون المسرحية لأنه يعتقد بأن كلَّ جهدٍ من أجل النهوض بالمسرح وتهيئة الناس ليشتغلوا فيه هو جهدٌ مبارك سواء أتى من المؤسسة الرسمية أو الجهات الخاصة، فلا أحدَ يُحبُّ المسرحَ حقيقةً ويمكن له أن يقفَ ضدّ هذه التجمعات! وفي حال كان ما يُقدّمونه يؤهلُ المتدرّب فعلاً لدخول المعهد العالي فأهلاً وسهلاً بها، كما أنّ المعهد العالي بكل صراحة لا يمكن له أن يستوعب جميع المتقدمين وأعدادهم قاربت المئات، نحن لا نقبل إلا (15) طالباً… فماذا عن البقية؟ أعتقد إذاً أنه من الأفضل لهم أن تكون هناك فرصة لهم في مكان آخر، ومِنْ حق هذه التجمعات الخاصة ألا تكون خاسرة أي أنْ تحاول ألّا تكون خاسرة، وأعتقد أن القائمين عليها يعلمون سلفاً أنهم يعملون في شأنٍ خاسر من الناحية المالية كما هو حال الشأن الثقافي عموماً.
كما يرى المخرج المسرحي مأمون الخطيب صاحب عروض مثل «زيتون» و«اعترافات زوجية» و«البوابات» أن التجمعات المسرحية موجودة في كل دول العالم وتعمل وفق مبدأ «الأستديو التدريبي» أو المدارس المسرحية المبنية على مبدأ الإفادة العلمية والمنطق المستدام في العمل المسرحي والفني، وهي بهذا المعنى تجمعاتٌ هامة تفيد في إغناء الحركة المسرحية في أي بلد إذا ما اعتمدت الحالات التجريبية في المنهج والإعداد المنهجي للممثل.
لكن الخطيب يتخوّف من أن تكون تلك التجمعات حالةً ربحيّة فقط تُتاجر بأحلام الشباب في مواسم الإعداد التدريبي للدخول إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، خاصة أن بعضها لا نرى له نتائج ملموسة إنما مجرد تسميات لتجمعات اجتماعية وليست فنية بالمعنى الواضح للكلمة ولم تعدْ تستطيع إنتاجَ مسرح جادّ بل بتنا نرى الكثير من غير المؤهلين علمياً يقومون بورشات تدريبية تُخرِّبُ الذائقة الإبداعية لمحبّي فن التمثيل بسبب سوء الموهبة لديهم أساساً.
المعهد العالي للفنون المسرحية مكانٌ نتنفّس منه هواءً نقيّاً!
الدكتور الباش يرى أساساً أن تلك التجمعات تشكّل رافداً مهماً للحركة المسرحية عموماً ومحفزاً وداعماً للمعهد ذاته، ولاسيما عندما تعتمد هذه التجمعات على كوادر خبيرة لا يستطيع المعهد استقطابها بحكم ظروفه المتقلبة وتقييده بقوانين الموظفين الخانقة بعقلية الوظيفة وروتينها فعندما يتم تأسيس الطلاب بشكل أكاديمي حقيقي، قبل انتسابهم إلى المعهد، يرتفع مستوى المتقدمين، وتالياً يرتفع مستوى طلاب المعهد العالي، كما يمكن أن تخلق هذه التجمعات تنافساً إيجابياً في المستقبل بين خريجي المعهد وخريجي هذه التجمعات.
ورغم أن الدكتور الباش هو من الكوادر التي عملت ودرَّستْ في المعهد العالي إلا أن لديه مآخذ على حاله إذ يعتقد أن المعهد في مرحلة تراجع غير مسبوق، والسبب الرئيس هو عدم قدرة إدارته على استقطاب كوادر تمتلك خبرات ومؤهلات مناسبة لمعهد مسرحي عالٍ، وهذا ما أثر بشكل مباشر في مستوى الامتحانات، وفي مشاريع التخرج، وحَرَمَ خريجي عدة دفعات من التأهيل والتصدير المناسبين، ويلفت أنه منذ أكثر من خمس سنوات لم نرَ مشروع تخرج واحداً ناجحاً! حتى الامتحانات معظمها كان مغلقاً (أي غير متاح للجمهور رؤيتها) ولا أعرف إنْ كان ذلك بسبب سوء مستوى الطلاب إلى درجة التعتيم عليهم أم بسبب فهم الإدارة الخاطئ لطبيعة الفن الذي يُدرِّسونه!
نحمِلُ تلك الانتقادات وغيرها إلى عميد المعهد العالي للمسرح الدكتور الخولي ونسأله: هناك رأيٌ يقول إنّ أعداد الطلبة ليست دليلاً على أن المعهد العالي للمسرح بخير وحجّتهم في ذلك أنه لا وجود لعروض أثارتْ اهتماماً نقدياً أو جماهيرياً أو حرّكت الجو الثقافي في البلد… وهناك البعض ممن يقولون إن موظفي المعهد باتوا يتعاملون مع المسرح بعقلية الموظفين لا المبدعين… ما رأيك؟
يجيبنا ويقول بحسرة: لم يأتِني أي شخص قائلاً لي انتقاداً ولم نأخذ به أو لم نناقشه لنصل معاً إلى نتيجة إيجابية تفيد الطلبة وسيرورة العمل.. هناك من انتقدَنا من بعيد، وحينَ وجّهنا له دعوة للإشراف على أحد مشاريع التخرج رفضَ المجيء من دون ذكر السبب! لكن فيما يخص الشق الأول من سؤالك أقول: إنّ المعهد يقدم مشاريعَ تخرج لا تأخذ صيغة العروض الجماهيرية إنما هي نتاج السنوات التدريسية كلّها، هناك مثلاً مشروع تخرّج أشرفَ عليه الأستاذ حسن عويتي وكان من أفضل مشاريع التخرج منذ سنوات، كما قدّم الأستاذ فايز قزق عرض «شارة»، وقدّم عروة العربي «المهاجر بريسبان» ونالت جميعها استحساناً طيباً، لكنْ لسوء الحظ ترافقت مشاريع التخرج في السنتين الأخيرتين مع جائحة كورونا وهذا أّثر على أعداد الحضور، كما أن مِنْ سِمات مشاريع التخريج أنها ليستْ للعرض العام رغم أهمية فكرة أن تعرض أمام الجمهور كدافعٍ وحافز للطلاب مع الفارق المهم بين عمل المخرج مع الخريّج في عرض جماهيري وعمل المشرف مع الطلاب في مشروع تخرّج!
وبالنسبة للشق الثاني يُكمل الخولي عاتباً على منتقديه ومذكّراً إياهم بأن هناك مواد تدريسية بقيَ فيها المدرّسون والمشرفُون عليها – وفي أقسى سنوات الحرب على سورية – حتى الساعة الثامنة مساءً، ورغم القذائف وخطورة تلك الأيام لم نعطّل يوماً واحداً أو نترك واجبنا وظلّ المدرسون يعملون بإخلاص شديد كما لو أن المعهد هو بيتهم، لا يحتاجُ الأستاذ حسن عويتي مثلاً وهو «شيخ المدرّسين» إلى العمل بعقلية الموظف ويكاد ما يتقاضاه حتى اللحظة لا يكفيه أجرة الطريق من بيته إلى المعهد ورغم ذلك يصرّ على المجيء… وسنبخسُ حقه وحق الجميع، خذ مثلاً الأستاذ مهيار خضور أجمل مَنْ التزمَ بالتدريس باستمرارية يشكر عليها، وهناك الرائعة مريم علي التي تخلّت عن تصوير العديد من المشاهد الدرامية في المسلسلات لصالح التدريس في المعهد، إنْ اتهمناهم بأنهم يعملون بعقلية الموظفين.. المعهد العالي للفنون المسرحية مكانٌ نتنفّس فيه هواءً نقيّاً، هو مكانٌ وجداني بالنسبة لجميع من مرّوا عليه بل وبسبب السمعة الجيدة المستمرة لهذه المؤسسة التعليمية العريقة منذ تأسيسه سيعاود الأستاذ المخرج العراقي جواد الأسدي إقامة ورشات للطلاب قريباً جداً.
فيما للمخرج الخطيب رأيٌ وسطٌ يدمج بين الرأيين السابقين إذ يعتقد أن المعهد العالي هو منشأة علمية هامة لا نستطيع إغفالها أبداً لكونه المكان الأساس شبه الوحيد في سورية الذي يُخرّج الفنانين بشكل احترافي – مع وجود خجول مؤخراً للجامعات الخاصة وحتى الآن – ورغم الأزمات العلمية التي تحدث فيه بين وقت وآخر مثل عدم وجود تجديد في الخبرات الدراسية والذهنية الإدارية أحياناً، وذاتية التعاطي مع المنهج التعليمي، بل رغم قلة الأساتذة للمواد الأساسية، وغياب الإيفاد للخبرات الجديدة للخارج لمتابعة التحصيل العلمي الحديث في الفن المسرحي، مع ندرة الخبراء الأجانب الذين أغنوا المعهد بخبراتهم في سنوات ما قبل الحرب على سورية.
أمثلة واقعية ونتائج إيجابية ملموسة!
الدكتور الباش- وهو مخرج أعمال مسرحية عديدة منها «بيت برناردا آلبا» عام 1997 و«غرام الدون برلمبلين» لغارثّيا لوركا لصالح المسرح المركزي الأكاديمي للجيش الروسي عام 1998 مروراً بـ« درس قاسي» بالتعاون مع اتجاهات ثقافة مستقلة ومعهد غوتة 2019، وصولاً إلى آخر عرض هذا العام 2021 بعنوان «انحلال» كمشروع تخرج لطلابه الدارسين في «مدرسة الفن المسرحي» التي أسسها ويشرف عليها منذ 2009) يقدّم لنا أمثلةً ملموسةً ويقول:
بقيتْ مؤسستنا «مدرسة الفن المسرحي» حتى الآن لثلاثة أسباب رئيسة، أولاً: لأنها تأسست على كادر أكاديمي رفيع المستوى ولم يتولَّ مهنة التدريس المباشر فيها سوى خبراء في هذا المجال، فمنذ البداية كان ضمن الكادر التدريسي الدكتور نديم محمد رحمه الله، والخبير الروسي فيودر بيريفيرزيف، وكان أستاذ الليونة مازن منى، كما درّستُ أنا التمثيل، فيما درّس التمثيل والإيماء الدكتور سامر عمران، والأستاذ مهيار خضور، ودرّس الرقص الأستاذ معتز ملاطية لي والآنسة مها الأطرش والأستاذ رأفت زهر الدين، ودرّست التمثيل والإلقاء الفنانة مريم علي، ودرّس الأدب المسرحي الأستاذة ميادة حسين والأستاذ ليل خدّاج ودرّست وتدرّس مادة الصوت الخبيرة الروسية لودميلا يليزوروفا، ودرّس الغناء الأستاذ فادي عطية والأستاذ وسام الشاعر والأستاذ حسام بريمو، ودرّس السينما الأستاذ محمد عبد العزيز….الخ)
ثانياً: عملنا على امتلاك مقر دائم وبذلك تخلصنا من ضغط الإيجار الشهري الذي كان يثقل كاهل مدرستنا ويهددها بالتوقف.
ثالثاً: كان ولا يزال هدفنا الأول استمرارية المدرسة بالمستوى المطلوب رغم الظروف التي دفعتنا في كثير من الأحيان للعمل مجّاناً وحتى لسدِّ العجز الحاصل من أموالنا الشخصية في فترات عدة، كما استطعنا أن نحصل خلال السنوات الخمس الماضية على ثلاث منح صغيرة من مؤسسات ثقافية آثرت أن تساندنا في أحلك الظروف بفضل النتائج الإيجابية التي حققناها ونحققها. فـ«مدرسة الفن المسرحي» إذاً هي التجمع الوحيد الذي استطاع أن يقبل دفعات من الطلاب ويستمر بتدريسهم تصاعدياً حتى تأهيلهم الأكاديمي الكامل وتخريجهم بعروض جماهيرية.
وينهي المخرج الخطيب رأيه ويخبرنا بأن العمل المسرحي «حكايتنا» الذي قدمه مؤخراً على خشبة مسرح الحمراء في دمشق هو نتاج لـورشة تدريبية لا تندرج تحت مسمّى تجمّع مسرحي لكون التجربة هدفت لانتقاء عدد من الموهوبين ضمن فترة محددة للتعرف على فن التمثيل بطريقة منهجية، وحتى الآن هي ليست تجربة مستدامة لكونها حدثت لمرة واحدة انتهت بعرضٍ واضح ضمن خطة مديرية المسارح والموسيقا للعمل على تنمية المواهب الشابة في سورية.