يكاد عمر الحركة الفنية التشكيلية في سورية بمعناها المُعاصر، أن يصل إلى مئة سنة، أو قد تزيد قليلاً، غير أن الفن السوري يتجاوز ذلك بأكثر من سبعة آلافٍ من السنين المغرقة في قدمها، يوم كانت سورية العتيقة، ولاسيما سورية في مرحلتها الهلنستية قبلة العالم القديم في الحضارة والثقافة، يومها كان الكثير من الفنون يبهر العالم، ولعلّ ما بقي منها إلى اليوم من تماثيل وعمارة كافٍ لأن يُدهش كل من يراه إلى اليوم.
رغم كل هذه القدامة في الفن التشكيلي السوري، غير أن محنة التشكيل في سورية؛ كانت دائماً فيمن يتصدى لتقديمه والحديث عنه، ومن ثم كانت الحركة النقدية السورية متأخرة بخطوات بعيدة عن الصياغات الفنية الجديدة وتطور الحركة التشكيلية بشكلٍ عام، ففي كل مرحلة لم يتعدَّ عدد المشتغلين بمواكبة وقراءة الحركة التشكيلية السورية عدد أصابع اليد الواحدة, وفي هذا المجال نذكر الناقد السوري طاهر البني، الذي حاول تسجيل «ذاكرة الفن التشكيلي في سورية» في كتاب حمل الاسم نفسه أصدره عن الهيئة العامة السورية للكتاب، حاول من خلاله توثيق الحركة الفنية في سورية، نقداً وببلوغرافيا ومُعرّفاً بالكثير من أقطابها ومراحلها، وذلك في ثلاثة أجزاء، حاول في الجزء الأول من هذا الكتاب الأقرب إلى الـ«انطولوجيا» أن يذهب بعيداً في العمق السوري ليصل إلى العصر الحجري (8000-2900ق.م) وصولاً لمرحلة الاحتلال العثماني (1516- 1918م) ومروراً بالعصور الآرامية، الهلنستية، الرومانية، البيزنطية، و ..الإسلامية.
فنون تنوعت بين الدمى الطينية، والنقش على الآنية الفخارية والأختام، وبين التصوير الجداري والنحت النصبي، إضافة إلى اللوحات المرصعة والحجرية والتماثيل الفخارية، ليأتي بعد ذلك فن الفسيفساء، وفي العصور الدينية؛ ظهر الرقش – الأرابسيك – وزخرفة الأواني، والفن الإيقوني، والتصوير الشعبي، و.. الحروفية..
تلك كانت أهم شواغل الفنون التشكيلية القديمة التي لا تزال راسخة في الأرض السورية, وموزعة بين تدمر وقطنا وإيبلا وأغاريت وعمريت، إضافة إلى وجودها في الكثير من المدن السورية القديمة، حتى يكاد أن يكون القسم القديم من المدينة السورية، يُشكل بمجمله حالة فنية صرفة، ومن هنا نُفسر هذا الهاجس لدى الفنانين التشكيليين بالمدن السورية القديمة كمعلولا وطرطوس ودمشق والشغل عليها في نتاجاتهم الفنية..
تلك الفنون العتيقة؛ هي من شكلت الإرهاصات الأولى للحركة التشكيلية السورية على مدى قرن من السنين، أخذت تقريباً كامل عقود القرن العشرين، ولا ينكر أحد، أن في بعض جوانبها، ولاسيما في مرحلتها الأولى كانت قد تأثرت برياح الثقافة الغربية حيث أيقظتها بعد «إغفاءةٍ» استمرت أربعة عشر قرناً منذ ظهور الدعوة إلى نبذ التصوير وتحريمه, وعلى ما يرى البُني؛ أنه إذا كانت النهضة الفنية السورية قد تأثرت إلى حدٍّ كبير بمفهوم الفن الأوروبي واتجاهاته في خطوتها الأولى، فإنها ما لبثت أن توجهت إلى مفهومات جديدة لم يعد النموذج الأوروبي هو المُحتذى، إذ سرعان ما أثار الموروث الفني للحضارات السورية القديمة مفهومات جديدة للفن، اتخذت لها أشكالاً مبتكرة في النتاج التصويري والنحتي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وبجهودٍ تبدو مضنية استطاع البني – إلى حدٍّ كبير – أن يُميز بين ثلاث مراحل على امتداد القرن العشرين، هي من شكلت الحركة التشكيلية السورية، وأعطتها ملامحها الخاصة، المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي نشأ فيها الاهتمام بالمذاهب الفنية الغربية، كالكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية، والانطباعية، وتحتل هذه المرحلة النصف الأول من القرن العشرين، أمّا المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي أخذ فيها الفنانون؛ يسعون للتحرر من أسر الاتجاهات الفنية الغربية التقليدية، ويتطلعون إلى الصيغ المستحدثة كالتعبيرية، التكعيبية، السريالية، والتجريدية، إضافة إلى الصيغ التي تستلهم التراث الفني المحلي، وتمتد هذه المرحلة من مطلع الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، و.. أمّا المرحلة الثالثة؛ فهي المرحلة التي نضجت فيها بعض التجارب السابقة، ونشأت فيها اتجاهات جديدة، تمتلك خصوصيتها، وتشترك مع التجارب المُعاصرة لها في حداثة لغتها، وتطور أدواتها، وتشمل هذه المرحلة الربع الأخير من القرن العشرين.
في المرحلة الأولى يُحصي الناقد البُني ثمانٍ وعشرين فناناً تشكيلياً ذكر منهم امرأة واحدة هي: «منور موره لي»؛ التي ولدت سنة 1912 في استنابول، وأقامت في سورية، ومارست شغلها الفني كهاوية حيث تدربت على أيدي فنانين عرباً وأجانب، كانوا يقيمون في سورية، وقدمت الكثير من اللوحات المائية والزيتية بأسلوب انطباعي، حيث استمدت مواضيعها من البيئة المحلية، ولا أدري كيف سها عن فنانة لا تقلّ أهمية عن «منور موره لي»، وهي: إقبال ناجي قارصليِ مواليد سنة 1925 التي ولدت في دمشق، وعاشت طفولتها متنقلة بين دمر والزبداني ودوما ودمشق، ورغم زواجها المبكر – بعمر 15 سنة – فقد انشغلت بدارسة الفنون الجميلة بطرق مختلفة، ومن ثم دأبت على إقامة المعارض التشكيلية، وكانت لوحاتها تمتاز بضحكة الألوان الربيعية المتأثرة بالانطباعية التي درجت حينها لفترة من الزمن.
أما المرحلة الثانية؛ فتمتد من مطالع الخمسينيات، وحتى مطالع السبعينيات من القرن الماضي، وقد أحصى خلال هذه المرحلة، ما يُقارب من اثنين وسبعين فناناً تشكيلياً، لم يتحدث سوى عن امرأة واحدة أيضاً من بين هؤلاء الفنانين الرجال؛ وهي الفنانة «لميس ضاشوالي»، المولودة في مدينة حلب سنة 1935، حيث درست الفن في دمشق، واهتمت في لوحاتها بالطبيعة والمرأة، بأسلوب ذهب بها صوب الرومانسية المتشحة بالشاعرية، حيث شاركت بالمعارض الجماعية لوزارة الثقافة إلى جوار عشرات فنانين؛ كانوا رواد هذه المرحلة .
فيما أحصى خلال المرحلة الثالثة؛ ما يُقارب مئتي فنان تشكيلي من رواد هذه المرحلة، وقد وصل عدد الفنانات فيها إلى نحو ست عشرة فنانة، وكانت الفنانة ليلى نصير من أولى الحاضرات في العمل التشكيلي، إذا ما استثنينا الفنانة شلبية إبراهيم المصرية التي تزوجت الفنان السوري نذير نبعة، فإن نصير هي أولى رائدات هذه المرحلة.