أمين السّاطي يتجاوز الفاصل بين الواقع والخيال في «نبوءة على التّلفاز»
لكثرة أوقات الفراغ التي يعيشها، يعود (وائل) من وظيفته الحكومية، ويشغّل التّلفاز ليتسلى، ويتنقل من قناة إلى أخرى، لكن اليوم ليس ككل الأيام السابقة، فقد استرعت انتباهه قناة تقدم أخبارها باللغة العربية، ولم يشاهدها من قبل، وتوقف عندها ليصغي إلى مذيع يتحدث بلكنة غريبة ويقرأ خبراً عن سقوط طائرة في دولة أخرى..
خبر يقرؤه (وائل) بعد أسبوعين من مشاهدته على التلفاز، لكن هذه المرّة في جريدة يومية.. في البداية لم يستوعب الأمر, فالخبر صادر في اليوم ذاته، توقف ذهنه عن التفكير، ومن ثمّ قرر ألّا يتابع تلك القناة مرّة أخرى.. قرار لم يتأخر في التّراجع عنه، فقد صار ينتظر المذيع الغريب كل يوم ويقارن بين أخباره والأخبار التي يقرؤها في الجريدة اليومية، فأراد كسر هذا الرّوتين والخوف من الجنس الآخر، ولم يكن أمامه إلّا زميلته (سلمى) التي ترفض الخوض في علاقة غير شرعية، ولاسيّما بعد أن أيقنت عدم جدّيته، فتنسحب من حياته تاركةً إياه ـ لاحقاً ـ لبائعات الهوى اللاتي يغدرن به..
يمضي الوقت، ويأتي اليوم الذي يتحدّث فيه المذيع إلى (وائل)، ويصّرح له عن مراقبته منذ فترة طويلة، وعن معرفته بكلّ تفاصيل حياته، ومذكّراً إياه بأنّه اصطفاه لمهمّة خاصّة بالبشرية، مهمة بدأت بسرقة بقالية، ومن ثمّ محل مجوهرات، وبعدها السّطو على أحد المصارف بمشاركة زميله في العمل وصديقه (سعيد) الذي تورّط طمعاً بالمال وتأمين حياة أفضل، لتكون محاولتهما هذه الضربة الناهية لهما ولأطماعهما، فالشرطة عرفت مرتكب كل الجرائم والسرقات التي حصلت في الآونة الأخيرة.
يفتح (وائل) التّلفاز؛ فيجد المذيع بانتظاره ليقول له كلماته الأخيرة عن الحياة والموت وعن أنّه خلال ساعات قليلة يجب أن تغادر روحه هذه الدّنيا الفانية، ولم يجد أمامه إلّا هذا الحلّ, فالشرطة تحيط بالمكان كله، يذهب إلى المطبخ ويحضر ما لديه من حبوب مهدئة ومنوّمة ويشربها دفعة واحدة، تاركاً وصيةً تكشف مالم تستطع سلمى وسعيد كشفه، ففي استجواب الشرطة لصاحبة المنزل الذي كان يستأجره تبيّن أنّ الفتاة الشّقراء التي طالما أحبّها ورغب بالزّواج منها لم تكن سوى حفيدتها، ولم تزر لبنان في حياتها، ووائل لم يعرفها إلا من خلال صورة رآها في منزلها، وهو يدفع الأجرة، وبسؤال الضّابط لوالدة وائل عن التّلفاز والمذيع تنصدم وتقول: إنّ التلفاز قديم ولا يعمل لكنّها احتفظت به لأنه من أشياء زوجها المتوفي وإنّ وائل بعد خروجه من مشفى الأمراض العقلية الذي أمضى فيه ستة أشهر أخذه معه إلى سكنه الجديد.
بهذا الحزن والصّدمة ينهي الأديب أمين السّاطي حياة بطله وضحية «نبوءة على التّلفاز»، ولا نتحدّث هنا عن صدمة الموت إنّما نتحدث عن كون الرّواية لا تتحدث عن الخيال العلمي كما نظنّ للوهلة الأولى، بل كونها تغور في النّفس البشرية ومخزونها الكبير من المآسي والكبت ومسببات الأمراض النّفسية والعقلية، وهذا ما يشير إليه أيضاً السّاطي في المقدمة الموجزة للرواية، يقول: الأفكار الغريبة التي لا تخضع للمنطق تتسرب أحياناً إلى عقولنا رغماً عنّا فلا تلبث أن تتحكم فينا، لأنّها تتوافق مع مصالحنا الشّخصية ورغباتنا المقموعة، فنجدها بعد فترة وقد تحوّلت إلى هواجس لاتنفكّ عن مطاردتنا حتّى تسيطر علينا فنصبح عبيداً لها، ولاسيمّا إن لم نجد في تلك اللحظة من يقف إلى جانبنا لينقذنا من الضّغوط النّفسية الرّهيبة التي نرزح تحتها، أما على لسان الرّاوي فيقول: لا يزال وائل جالساً وحده أمام شاشة التّلفاز، ذهبت به ذاكرته إلى أيام الطّفولة عندما كانت أمه تتركه لساعات طويلة يجلس فيها بمفرده يشاهد أفلام الكرتون.. وأصبحت هذه الشّخصيات الكرتونية الوهمية جزءاً من عالمه الخاص.
يعتمد السّاطي هنا على الوضوح في أسماء الشّخصيات ويتوسّع في صفاتها الجسدية والنّفسية والفكرية، فوائل يعمل في مبنى أمانة السّجل العقاري، على الرّغم من أنها وظيفة لا تلبي تطلعاته، فقد كان طالباً في كلية الفلسفة بالجامعة اللبنانية لكنها وظيفة حكومية توفّر له الأمان، وهو شخص كسول بطبعه لا يحترم مهام وظيفته، فهو يتصوّر أنّ التزامه بالحضور والانصراف في الوقت المحدد هو المؤشّر المطلوب على انضباطه بالعمل، لديه دائماً خوف من المجهول، ويبقى مرعوباً من فكرة أن يمرض كأخته، لذلك خطر له أن يكسر حاجز الخوف ولاسيّما من الجنس الآخر، فقرر التقرب من زميلته في العمل سلمى وهي – حسب الرّاوي- بنت عادية جداً وغير متعلمة ومن الصّعب عليها الحصول على عريس حتّى إّنها لم تجرؤ على التّفكير بالزّواج وإنشاء أسرة كما تحلم جميع صديقاتها، لكنّها قنوعة لدرجة قد تعيش معه في غرفة واحدة.
كذلك الأمر بالنّسبة للمكان، فهو ليس عنصراً مجهولاً أو يتمّ الاكتفاء بالإشارة إليه بالقول في طرف المدينة أو الرّيف، بل يذكر السّاطي اسم البلد التي تدور أحداث الرواية على أرضه وهو لبنان، فنجد وائل يتنقل بين مدنه وقراه حسب عملية السّطو التي يكلفه بها المذيع، فيزور قرية (عينطورة المتن) ليسرق دكان الصّرافة، ومدينة طرابلس، ومنها إلى منطقة (جذب) التّاريخية، وهو موقع تراثي قبل أن يذيع صيته كسوق صاغة، كما أنّه يسافر إلى الهند تحديداً مدينة (بومباي) لإجراء عملية جراحية لأخته المريضة “سعاد”، ونرافقه أيضاً إلى “فيرجن ميغا ستور” في بيروت ليشتري أسطوانة مدمجة لفيلم طلب منه المذيع مشاهدته، كما أنه لا يغفل محاكاة الطبيعة، يقول: كانت السّيارة تسير على الطّريق الساحلي الموازي لشاطئ البحر، إنّه منظر رائع، فالبحر هادئ والشّمس مشرقة ونسمات الهواء الباردة المنعشة تتسلل برفق من شبابيك السيارة المفتوحة.
التّفاصيل الصّغيرة تثقل كاهل السّاطي، فنراه يحدد نوع السّيارة والسّاعة التي يظهر فيها المذيع والسّاعة التي يبدأ فيها وائل جريمته والأسابيع والشّهور، والمبالغ التي كان يسرقها والحصص التي أعطاها لـ(مايا) بائعة الهوى ولاحقاً لسعيد، لدرجة المبالغة أحياناً، مبالغة غير محببة لكنّها في الوقت ذاته ليست مملة ولاسيّما أنّه يسردها بسلاسة ولغة محكمة..
يقول السّاطي: من غير المستبعد أن تتآمر حواسنا علينا وتبدأ بخداعنا، ما يسهّل علينا اجتياز الخط الفاصل بين الواقع والخيال، فنغرق في الأحلام ونستمتع بالأوهام، مبتعدين عن مشكلاتنا اليومية ومحققين إشباعاً جزئياً لرغباتنا الجنسية المكبوتة منذ أيام الطّفولة حتى نلاحظ بعد فوات الأوان أننا قد انفصلنا كلياً عن كلّ ما يحيط بنا وخلقنا عالمنا الخاص.. فجأة تداهمنا نهايتنا التي نخسر فيها الحقيقة وأنفسنا في الوقت نفسه.
تقع الرّواية في مئة وثمانية وخمسين صفحة وهي كما «أوهام حقيقية» إصدار الكاتب نفسه.