توحّش وأنسنة

د. صـلاح صـالح :  
لم يستطع الإنسان أن يستكمل انتصاره على الوحش المتمترس في أعماقه إلى الآن؛ من المؤكّد أنّه قد أنجز انتصارات عديدة متراكمة ضدّ الوحش الكامن في أعماق كلّ منّا، غير أنّ الإنسان فينا لم يستكمل انتصاره المنشود، فالوحش لا يزال يمارس قهر الإنسان ودحره إلى حدود متطرّفة ماثلة في كلّ ممارسة حربية بين الإنسان والإنسان، وفي كلّ ممارسة ظالمة, مهما بدا شأنها ضئيلاً؛ السلوك العنيف، بإطلاق الدلالة، لا يصدر إلاّ عن الوحش الكامن في الأعماق، حتى لو كان العنف عنفاً لفظيّاً، أو عنفاً قائماً في النيات.
يصعب تحديد الفترة التي أصبح فيها الإنسان إنساناً كاملاً قادراً على ممارسة إنسانيته، وقادراً على لجم الوحش الكامن في داخله، ويصعب أيضاً ربط ذلك بالجغرافيا الأرضية التي يخضع تطوّرها لمبدأ التفاوت. ولنا في الآداب العالمية بعض ما يشير إلى استمرار التوحّش داخل الكيانات الاجتماعية المختلفة؛ فالحروب التي لا تزال قائمة تحت مختلف الشعارات والذرائع هي المجال الأفسح الذي يتيح للوحوش استيقاظها من حالتها المدحورة إلى الكمون، وربّما كان التوحّش الأفدح هو ذلك الذي يحدث ضمن إطار الأسرة الصغيرة الواحدة، لا بوصفها الخلّية الاجتماعية الأصغر فقط، بل بوصف أفرادها محكومين بمقدار أدنى من التعاطف والتراحم المتبادلين، ومثل هذه الحالات من القهر الذي تمارسه الأسرة، أو أحد أفرادها بحق بعض أبنائها يكاد أن يكون ملمحاً من ملامح القصّ في الأدب الكويتي، والأمر يتجاوز ذلك إلى ما سرده الأدب الياباني كرواية (ناراياما، أو جبل السنديان) التي تعاين مرحلة شديدة القسوة من التاريخ الاجتماعي لليابان، حيث يقوم الابن بإرغام أمّه، أو والده، أو كليهما معاً على الاعتكاف في جبل مثلج ناء لمواجهة الموت بعد بلوغ عمر الستّين. لتوفير الطعام.. بالتوازي مع سرديات – لا أستطيع الإلحاح على مصداقيّتها – تذهب إلى أنّ الأبناء في عهود سحيقة كانوا يبيعون آباءهم بوصفهم طعاماً قابلاً للأكل في المجتمعات الآكلة للحوم البشر، لكنّ البشرية تقدّمت، ومارست مزيداً من التقدّم، وصولاً إلى جعل حياة الإنسان، هي القيمة القصوى بما في ذلك حياة الشيوخ وكبار السن، والأشدّ إثارة للأسف أنّ الثقافة الأمريكية الرائجة، والمروّج لها على نطاق عربي خليجي آخذ في الاتّساع، هي الإصرار على جعل قيمة حياة أي شخص، حتى لو كان أباً أو أخاً أو ابناً، لا قيمة لها، ويجب التخلّص منها، كأيّ نفاية، في حال قيامها عائقاً دون تحقيق أتفه الأهداف.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار