ثراء المصطلح

الفكر الإنساني لا يعرف النضوب ولا العقم لأنه طليقٌ بلا حدود، خصبٌ من دون محسِّنات صناعية، ومن خصوبته نتج ما يُعرف بالمصطلح الذي فيه كثافةٌ من موادَّ وأفكارٍ تحيلُ متلقيه إلى بحرٍ من المعاني والظلال التي لا تقتصر على العلوم الخالصة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء بل تتعداها إلى العلوم الإنسانية والنظرية، حيث لن نذهب إلى علم النفس أو الاجتماع أو التربية، بل سنتمحّص ذلك في عالم الأدب والإبداع!
أكوامٌ من دواوين الشعر والروايات والقصة القصيرة والخواطر مرّت بي، أو مررتُ بها بحكم المهنة، كانت تدهشني ليس في جرأة كتّابها على تبنّيها بل بتساهل دور النشر في طباعتها، وأغلبها يعاني من ركاكة وأخطاء وسوء صياغة يشبه الخِياطة التي لا تعرف القياسات ولا براعة دمج الأكمام مع البدن ولا استخدام الخيط المناسب! وفي متاهة من الجمل فاقدةِ الترابط، رأيت فظائعَ تعثُّر المعنى بسبب الجهل بالمثنى وقواعده وتذبذبه على تخوم الجمع، وتشرُّد حروف الجرّ، بحيث لا يُستَخدم واحدٌ منها في مكانه، وفي استخدام تراكيبَ خارجَ التلازم، والتلازم من سمات لغتنا العبقرية: الأخضر اليانع. البياض الناصع. الطول الفارع. الثراء الفاحش. الفقر المدقع!
تسقط بعض النصوص في أحابيل الترجمة حين تستخدم بلا تقنين ولا اقتصاد فعلَ كان في مبتدأ كل جملة، وكذلك بعد “العطف” و”الاستئناف” على أساس تأثرها بالأدب العالمي، وكلُّ ما ذُكر يشي أو ينمّ عن عدم الخبرة، فكيف لنصٍّ أن يرقى إلى مستوى النشر وصاحبُه غيرُ خبير بما جاء يصوغه وهو واثقٌ بامتلاك “المواد” اللازمة، والمواد هنا هي الأفكار، ما يستدعي قسراً قول “الجاحظ” العبقري: إنّ الأفكار منتشرة على قارعة الطريق بمعنى أن المعوّل عليه هو الصياغة الفنية؟
على غير انتظار مرّ بي تعبير “الرواية المراهِقة”، وإنه لمصطلحٌ ثريٌّ يوجزُ حال المطبوعات المذكورة، لأن المراهقة مرحلة من العمر لا تستوي فيها التجارب الناضجة والمستقرة، رغم أنها تتسم بالحيوية المفرطة أو الهمود الطويل، وتحمل الكثير من الزهو والقناعة ببعد النظر والكشف العميق بالإضافة إلى رفض المألوف من القيم والتمرد عليها، والثقة بالتغيير الشامل، أما النقد فلا يعدو أن يكون قصوراً في الفهم وعدمَ التقدير لأسباب لا تمتُّ للإبداع بصلة! ويعسر على هؤلاء الكتاب أن يقتنعوا بأن هناك مرحلةً تمر فيها الكتابةُ الإبداعية اسمها “المسوّدة” القابلة للبقاء في الظلِّ، زمناً ما، تفيد العودةُ إليها للتنقيح والتعديل والمراجعة، حتى تتخطى “مراهقتَها” وتخرجَ راشدةً ناضجة متعقلة!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار