نقطة نظام..

تشرين- إدريس هاني:
التاريخ وحده يقوّض المُغالطة، بما فيها المغالطة التّاريخية، هذا فقط حينما ننصت إليه بآذان مصغية، لا نستطيع تفادي لعنة التاريخ لحظة غضبه وانطلاق قوانينه المرعبة، أو الدخول معه في سباق مغالط، فجوهر الفعل التّاريخي هو ما لا يصحّ الشيء إلاّ به، الثرثرة لا تصنع تاريخاً، والتّاريخ لا يحفل بالثرثرة، لا شيء يمكن أن يعيد مكتسبات شعب مقاوم إلى المربّع الأوّل، تلك هي حالة غزّة، محمية الشّهداء، ومن أراد أن يعانق قضيتها، عليه أن يتطهّر من كلّ شوائب وأمراض الهزيمة أو حتّى النّضال بالضغينة: غزّة هي محجّة بيضاء، تحمل تعبيرها في نفسها. فحين يُكتب التّاريخ بدماء الفرسان والبراءة، يمكث في الزّمن، ويرسخ في الأرض. علينا أن نتذكّر، أنّ التّاريخ الذي يكتبه الشهداء هو الذي يخلد في الزمن، وليس التاريخ الذي يكتبه الانهزاميون.
إنّ الخبرة المسرحية تتيح لنا أن نميز بين أشكال الإيماءات، بين الذّكيّ منها والمنتوف، لقد منحنا شارلي شابلين صورة عبقرية عن الغباء، في الإيمائية الصّامتة، اليوم نجد الإيمائية الشّابلانية نفسها على مسرح النّضال بالمراسلة، دكاكين ثورجية ممسرحة، هذه المرة بالألوان الفاقعة، ألوان الطيف، لم يتركوا للحقيقة معنى، إلاّ وقد دبّوا إليه دبيب الوزغ. الفرجة ممتعة حتى الآن، وصبيب المزاعم التي تشبه مزاعم خُرافة، هي الكلأ اليوم في سباق أجرب نحو المستحيل، يا للغباء.
غزّة للفرسان لا للرعاديد، لمن أخلصوا لا لمن تاجروا، لمن ضحّوا لا لمن تسلّقوا، لا أغبى ممن يكذب على التّاريخ، وفي حضرة المؤرّخين، وبأدوات فاسدة من نفايات التّأْرخة، ترى من يحق له أن يكتب تاريخ غزّة المناضلة بعيداً عن لعبة «الشّفوي» وعن سياسة الأوزاغ.. هل ذُهان الادعاء يكفي لإنصاف القضايا العادلة.
غزّة اليوم تقاوم، وحولها ساحات قاومت وأشغلت الاحتلال بمناورات لم تهدأ، والذين استصغروا تلك الأعمال البطولية، ثم حاولوا أن يركبوها بخجل، وتاريخهم مضمّخ بقلّة الوفاء وبالتآمر على محور المقاومة، يرون اليوم أنّهم خارج كلّ المعادلة، ولهم أحجيات غير مقنعة، ودروس بهلوانية لمن يدهم على الزناد، إنّ التمييز بين الساحات، والتقليل من أهميتها، إخفاء للشمس بالغربال، كما أنّ توزيع صكوك الثقة على هذا الطرف أو ذاك، دجل ووقاحة، لأنّ التوثيق يقتضي وثاقة المُوثِّق، فمن كان غير موثوق، فكيف يحكم بالوثاقة أو عدمها، هل بحدّوثة صبيانية نكتسب الحق في النطّ على توزيع صكوك الغفران على المقاومين؟ هل أنت مقاوم يا…؟
لقد تمّ استهجان موقف اليمن، تلك التي حاولوا استصغار شأنها حتّى عزّ عليهم أن يسموا رجالها باسم الأنصار وتحالف القوى الوطنية بما فيها الجيش الوطني، ولكن التاريخ أبى إلاّ أن يجري الحق على ألسنة الدجل، فلقد أراد أن ينصف هذه العشيرة المكافحة، ويكرمها كطليعة نضال مرير، لتُكتب في التاريخ بشهادة خصومها. وكم أحصينا من تحامل خصومها عليها، وكم أحصينا من صمت من يزعمون أنهم في معادلة النّضال. بل هناك من لا يزال يرعى على خرائف التآمر.
ثم كم أحصينا من تحامل أو صمت ضد الرافد الأكبر لتلك المقاومة، وكم اشرأبّت أعناق الشّر الطائفي وهي تحاول أن تعطي تفسيراً لقصف أوكار عملاء الاحتلال، ولا كان همّهم أن يحتجوا على الإرهاب الذي استهدف كرمان، ولما قصفت باكستان الأراضي الإيرانية، تهللت وجوه عليها غبرة، ظانين أنّها معركة ستروي حقدهم القديم، قبل أن يصدر بيان بأنّ تلك أزمة مرّت بسلام وعادت الأمور إلى طبيعتها. كل هذه جهود، وهي كذلك، ولا يحتاج محور المقاومة إلى أي اعتراف، لأنّ الدكاكين مثابرة على لعبة صبيانية، ليس لها أفق مهما طالت الأحلام واستطابت.
تحتاج غزّة اليوم إلاّ محيطها، إلاّ من ضحوا وتساموا في مبدئية الكفاح، إلى أولئك الذين تحمّلوا الكثير، ليصمدوا في وجه التّآمر والعدوان والشيطنة والنّفاق. صمدوا لأنّهم هم الأعلون وغيرهم سفلة وسيظلون سفلة، لأنّ من لا يرقى بوعيه إلى مراتب أهداف الأمة ونهضتها، فمصيره أن يبقى في مجاري المياه يُمنّي نفسه بحديث خُرافة.
محور المقاومة كلّ لا يتجزّأ، ومن لغا فلا جمعة له.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار