مَمنوعٌ من التّداولِ!!
لطالما كانتِ المُعطياتُ الخاصّةُ بالداخلِ السوريّ بكلّ مؤسساتهِ مادّةً دسمةً للتداولِ، لاسيما فيما يُنسَبُ لمنظماتٍ دولية،ٍ ذاتَ إصرارٍ مثيرٍ للدهشةِ على التناولِ “الفانتازيّ” للأرقام الخاصّةِ بسوريةَ وتصديرها على شكلِ تسريبات.. والتسريباتُ دوماً ذاتُ إيقاعٍ مختلفٍ في التلقّي والتداول العام، وهنا مَكمنُ الخطورة عندما تكون – التسريبات – عبارةً عن فبركات وافتراءات.
وقد بَرعت مؤسساتٌ دوليةٌ كبرى في مثل هذه اللعبة، من صندوقِ النقد إلى البنك الدولي، ونسقٍ واسعٍ من الهيئات المُسَخّرة لخدمةِ سياساتِ دولٍ وتكتلاتٍ فوق إقليمية.. وصولاً إلى مصطلح “شاهد عيان” الذي كان مُنطَلقاً لقرارات تعسفيةٍ قاسيةٍ بحق الشعب السوري، كقانون قيصر “سيزر” الذي بالتأكيد لم يكنِ الأولّ ولن يكونَ الأخيرَ في سيناريوهات الاستهداف المُعدّةِ مُسبقاً لسوريةَ، وربما لمئة سنةٍ قادمةٍ..!
إلا أنّ المتحولَ القاهرَ بكلّ معنى ودلالةِ مصطلح القهر، هو أن تأخذَ المنظماتُ الدوليةُ ومراكز “رشق” وفبركة الأرقام، استراحةً وتسترخي أمامَ بدائلَ رخيصةٍ أو غير مكلفة لصناعةِ المحتوى المُفخخِ عن سوريةَ، و المادةُ الخام والجاهزة تدور في مضمار الصعوبات المعيشية والوقائع الموجعة، وهي فعلاً وقائعُ قاسيةٌ.. لكنها تعود في معظم أسبابها إلى خلفيات غير محلية.
تَحوّلٌ لافت بالفعل من تركيز البنك الدولي على التشكيك بسعر صرف الليرة السورية في زمن الاستقرار، إلى تولّي صفحات زرقاء مهمةَ التهويلِ لتمهيد الطريق أمام ارتفاعاتٍ قادمةٍ في أسعار العملات الأجنبية أمام الليرة.. وتحولٌ قاهرٌ من انشغال صندوق النقد الدولي بضخ تقديرات مبيتةٍ بخصوص الناتج المحلي السوريّ ومتوسطِ دخل الفرد ومعدلات البطالة والفقر، إلى تولّي الميديا الجديدة مهمة “القصف بالأرقام والمعطيات” وسرديات السوداوية المفرطةِ والمبالغات التي تفتحُ الأفقَ أمام احتمالات المزيد من الكوارث، وكأنها تستحضرُ الشياطينَ من قَماقمها، من تكلفةِ الطبخة الصغيرة للأسرة السورية، إلى تقديرات الإنفاق اليومي، إلى حصة الفرد من بلورات السكر وحبات الأرز وحكايا “الكالوري”.. وكأنّ المواطنَ السوريّ ينتظر من يخبره بأنه مأزومٌ أو يلفتُ عنايته إلى مدى كفاية الراتب، أو أسعار سلعٍ هي من أساسيات يومياته.. وغالباً ثمةَ مبالغاتٌ مريبةٌ في الأرقام المتداولة عن الأسعار، أي تُضَخّمها أكثرَ مما هي مُتضخمة، وهذا أخطرُ أشكال افتعال الطلب على السلع وبالتالي الاحتكار.
حقيقةً الواقعُ صعبٌ ومرير، وهذا لايمكن لعاقلٍ تجاهله، لكن ثمةَ مساعٍ مكثفةٌ ظاهرةٌ وخفيةٌ تجري للخروج من عنق الزجاجة.. وهناك بالتأكيد أخطاء وارتباكات، بل لم يخلُ الأمرُ من فساد أحياناً، لكن أيضاً هناك نجاحاتٌ وجهودٌ تُبذلُ يُفضلُ أصحابها في مؤسساتهم عدمَ الحديثِ عنها تجنباً للتنمّرِ والتناولِ الخاطئ في مُناخٍ لم يعد يتقبلُ الأفكارَ الإيجابيةَ، أو ممنوعٌ عليه تقبلها أمامَ الكمّ الهائلِ من الضخّ السلبيّ العفويّ والممنهجِ، لكن بالتأكيد ثمة إدارةٌ فعّالةٌ لمعظم الملفّات.. ونتحدث هنا عن دولةٍ لا مجرد حكومةٍ.
فلا يقتصرُ دور الدولة -كدولة- على تأمين رغيفِ الخبزِ وأسطوانةِ الغازِ وإدارة النقص الحاصلِ في مختلف الاحتياجات الفردية والمجتمعية، بل لها دورٌ أكثرُ حساسيةً على مستوى البنى العميقة.. وإلا تحولت إلى دولةٍ فاشلةٍ كما جرى التخطيط المُسبق للدولةِ السوريةِ.
في كواليسِ الدولةِ تجري ترتيباتٌ هادئةٌ لإعادةِ بناءِ مؤسساتٍ حقيقيةٍ جديدةٍ ومتماسكةٍ، ترتيباتٌ نضجَ بعضها والكثير الآخر في طريقه للنضوج، لم يتطرق إليه أحدٌ من هواةِ إذاعةِ متواليات النعوات المحبطة.. فخبرٌ من قَبيل “الترخيص لخمسة معامل سماد محلية” ليس مهماً في شرعة الميديا السوداء، أما الإنذارات بارتفاعاتٍ قادمةٍ – لم تحصل بعد – في سعر صحن البيض فتنتشر كما النارُ في الهشيم.. وهذه أخطر أشكال الدعاية السوداء المرافقةِ دوماً للحروب والأزمات.
عموماً القرارات “الجراحية” العميقةُ ليست ذاتَ شعبية، لكنها طريقٌ غير اختيارية نحو التعافي.. وانتظارُ النتائج أهمُّ بكثير من تصويرِ جسد المريض المفتوح والأحشاءِ الظاهرة والدماء النازفةِ في غرف العمليات.