أحمر.. بالطولِ والعرض
جاؤوا ليُغرقُوا المنطقةَ بقناةٍ مائيةٍ، فغرقوا في بحر عاتي الأمواج..
لعلها مقاربةٌ تلخّصُ خلفياتِ وواقعَ ومستقبلَ ما يجري اليوم في إقليم الشرق الأوسط، وفصول أقرب إلى الفانتازيا.
فإن كانت «قناة بن غوريون» الهدف الذي حفّز إطلاقَ شرارة الحرب على غزة، بكل الحشدِ الاستعراضي الذي أجراه الأميركي، وإنذارات عدم التدخل التي وزعها في جهات الدنيا الأربع.. ستكون القناة ذاتها الحل المُلزم لإطفاء فتيل حرب لا يبدو أن الأميركي قادرٌ على ضبط نطاقها في الحدود الضيقةِ التي توهّمها، وها هو اليومَ يتوسل، ولو بشكل غير مباشر، تدخلَ كل من يمتلك القدرة على الحراك، لفعل شيء ما -أي شيء- يحفظ ماء الوجهِ المسفوك في عرض البحر الأحمر..
ويبدو أن استنتاجات الأميركان جاءت متأخرة، بعد فوات الأوان، ولم تسعفهم مراكز أبحاثهم في إدراك مبكر لحقيقة أن اللعبة باتت اليوم لعبة أمم، وأن إشعال فتيل التوتر في أي منطقة من هذا العالم، سيكون له أصداء متشظية في بقاع متفرقة..
هذه حقائق تشكل متغيرات قاهرة في بنية النظام الدولي، يصرّ الأميركي والغرب الأوروبي على المكابرة بشأنها وعدم الاعتراف بوقائع جديدة فرضت نفسها عنوة.
إلا أن ثمة ملامحَ انكفاءٍ باتت واضحةً، بل صحوة على صفعة مدوية تلقاها من تلقوها في البحر الأحمر، انكفاء وقفز -ولو كان خجولاً ومتردداً- من المركب الأميركي، بدافع من إلحاح المصالح الاستراتيجية لا القناعات، لأن متوالية الخسائر الأوروبية ممتدة من المسألة الأوكرانية وصولاً إلى الحرب على غزّة، فهناك كان درس الغاز القاسي.. وهنا درس الملاحة البحرية، والدرسان مدفوعا الثمن باهظاً، دون أن يرشُح عن الأميركي أية نيات للتعويض، هذا إن افترضنا أنه يمتلك القدرة على ذلك…
وإلا ماذا يمكن أن نفهم من التقهقر الدراماتيكي لـ«حراس الازدهار» الواحد تلو الآخر..؟
الواقع.. لم يعد للتحزبات السياسية معنى، إن لم تكن إطاراً يغلّف أبعاداً اقتصادية طويلة الأشواط، ومنظومات مصالح دسمة تغري بالاصطفاف السياسي.. ويبدو أن التحولات والانعطافات الحادة في تفاصيل المشهد العالمي، رسخت قناعات جديدة وأحدثت تصدّعات آخذة في الاتساع، على مستوى قوام التحالفات التقليدية القديمة، أو مانسمية قوام القطب الواحد.
الجميع التقط بحذاقة المفاجآت الصادمة في مياه البحر الأحمر، وفهموا أن اللعبة اليوم من اختصاص قوى كبرى، وتوازنات جديدة تبتر الأصابع التي تتسلل للعبث بها.
وإن كان ثمة «حراس ازدهار» حقيقيون فهم هنا أبطال المنطقة، وشركاء «التكتلات العملاقة الجديدة»، لا حراس المصالح الأميركية.. الأميركية فحسب.. وليكون بعدها الطوفان، والطوفان قد حصل.. بل وهيجان بحر متلاطم الأمواج.
يبدو أن الأميركان لم يعاينوا جيداً خرائط أجدادهم البرتغال القدماء.. التي اكتسب البحر الأحمر تسميته “أحمر” منها للدلالة على خطورة المغامرة بالدخول فيه.