في مكتبتها، ضئيلةِ تعداد الكتب، كانت روايةٌ قديمةٌ جيدةُ التغليف تستند إلى الجدار الذي يحيط بالرّف الخشبي، ويبدو أن هذه الرواية غادرت مكانها وعادت إليه بضع مرات، بسبب تمزّق الغلاف الورقي المخطّط بعناية، يغطي التجليدَ الأصليّ السّميك، وبمجرّد أن سمعتْني أرثي الأغلفة المعاصرة التي باتت بلوحات جميلة لكن بورقٍ لا يقاوم الزمان ارتبكت وهاجت بها ذكرياتٌ لم يكن صعباً عليها أن ترويها بعد أن أصبحت في عمرٍ لا تجرحه الأحداث التي مضت أيّاً كانت مساراتُها ومآلاتُها! قالت: إنها حين تزوجت قبل ظهور نتائج امتحاناتها في الثانوية فوجئت بأنها انتقلت إلى بيتٍ حديثُ أهله يخلط بين حسابات المال ووفرته والادخار من أجل مشتريات جديدة ومشروعات صغيرة واقتناء وقراءة الكتب! وقدّم لها زوجها رواية “المقامر” للكاتب الروسيّ ” ديستويفسكي” الذي يسلِّم بعبقريته تسليماً لا يحتمل النقاش كي تقرأها وكأن الأمر من بديهيّات الحياة التي تسير مع أعمال المطبخ والإنجاب وتربية الأولاد وحُسن التعايش مع العائلة الريفية الكبيرة! وتتذكّر السيدة التي أصبحت جدّة أنها بدأت بقراءة الرواية ثم تركتها عشرات المرات وهي لم تتخطَّ الثلاثين صفحة منها، وخلال ذلك قرأت روايات أخرى لكتّابٍ آخرين وسمعت تحليلات لهذه الروايات ولكنها لم تجد قبولاً من هذه الرواية التي لم تُتِمّها حتى اليوم إذ إن الودّ كان مفقوداً تماماً بينهما، كما لم تجد تفسيراً لهذا الاستعصاء! هل هو في أسلوب الكاتب الذي كان ينشرها على حلقات في مجلة أدبية لتسديد ديون للناشر؟ هل هو موضوع “المقامرة” الذي لا يهمها؟ هل هي حداثتُها في القراءة في تلك الفترة من عمرها؟ هل هو الرفض الغريزيّ للوصاية التي مارسها الزوج دون قصد حين قدم لها هذه الرواية دون غيرها؟ وما زالت تخجل من تذكُّر أو شرح هذه الفجوة في حياتها حتى لا يُقال: إنها جاهلة!
فجأةً فتحَتْ في تداعياتي باباً سالكاً إلى حكايتي مع رواية “البابا الأخضر” للكاتب “أستورياس” التي كنت أفتحها ولكنني لا أستطيع التوغلَ فيها فأتركها لأمضي إلى غيرها، كأنني حين أفتحها أفقد فجأة كل وسائل التنقل في شعابها ولا أرى فيها تلك “الشاخصات” التي تدل على المنعطفات والجغرافية الواسعة التي تمتد فيها، حتى كُتب لي سفرٌ بعيد فأخذتها واحدة، وحيدةً، لأُجبَر على قراءتها كأننا في إقامة جبرية لا تستطيع إحدانا الفكاكَ من الأخرى!
نعم! لنا مع الروايات، روايات، لأن المزاج ليس فصلاً واحداً له ظواهره الثابتة التي وجدنا لها طرائق استجابة وتأقلم، نستطيع بعدها التعايش والانسياب مع التقلبات مهما كانت حادة أو سلسة تفضي إلى أماكن قاسية أو سارّة!