هل انتهى عالم القطب الواحد؟
يعدّ هذا السؤال الأكثر طرحاً منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ينقسم من يقدمون الإجابة إلى قسمين رئيسين؛ الموالون لأميركا والمرعوبون منها؛ وهؤلاء يصدعون رؤوسنا بإحصائيات عن قوة الاقتصاد والجيش الأميركي ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن هزيمة الولايات المتحدة ضرب من المستحيل، وأنها استدرجت روسيا إلى فخ الحرب في أوكرانيا لإضعافها. الفريق الآخر المعادي لأميركا يجزم بالنصر الروسي وبانتهاء عالم القطب الواحد.
الطرفان مخطئان ومصيبان في الوقت نفسه الولايات المتحدة وحلفاؤها يسيطران على 60% من إجمالي الناتج المحلي العالمي مقوماً بالدولار، في حين تشكل روسيا 2% من هذا الإجمالي، والجيش الأميركي والناتو يشكلان القوة العسكرية الأكبر والأخطر على الكوكب، لكن الحرب ليست حرباً مباشرة بين الناتو وروسيا، وكلا الطرفين يعلنان عدم وجود النية لديهما لدفع الأمور نحو مواجهة مباشرة بينهما، كما أن تقديرات البنك الدولي التي تربط إجمالي الناتج المحلي العالمي بالقدرة الشرائية تعيد ترتيب الخريطة الاقتصادية العالمية بشكل يختلف عمّا هو متداول.
السؤال الأهم؛ مالمقصود بعالم القطب الواحد، ومن هو هذا القطب؟ الإجابة المتسرعة تقول إنه الولايات المتحدة الأميركية، لكن الواقع يشير إلى أنه المثلث الرأسمالي المكون من الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، ويمكن إضافة بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، أداة الهيمنة الرئيسة لهذا المثلث هي الدولار وليست القوة العسكرية.
المشكلة الأخرى أن خصوم هذا المثلث الرأسمالي غير قادرين أو راغبين بالتخلص من الدولار ، الصين مثلاً تمتلك أكبر احتياطي عالمي خارج الولايات المتحدة من الدولار الأميركي، وهي في الوقت نفسه أكبر مستثمر في سندات الخزينة الأميركية، وتعد الأسواق الأميركية والأوروبية المستهلك الأكبر عالمياً للمنتجات الصينية، في حال تعرض الدولار أو الاقتصاد الأميركي لأي أزمة فإن الصين ستكون واحدة من أكثر دول العالم تضرراً على الصعيد الاقتصادي.
بالنسبة لروسيا، فإن الاستمرار ببيع منتجاتها بالروبل سيؤدي إلى انخفاض حاد في الصادرات، ما يعوق نمو الاقتصاد الروسي الذي يعد من الاقتصادات الصاعدة في العالم، لذلك لا بدّ لنا من التفريق بين الإجراءات الطارئة والتكتيكية المرتبطة بالأزمة الحالية، والتي تهدف إلى وضع ضغوط عالية على اقتصادات الدول المعادية، وفي الوقت نفسه حماية سعر صرف الروبل، وبين الإجراءات الاستراتيجية القادرة على إحداث تغيير حقيقي في بنية الاقتصاد العالمي.
منذ عام 1971، وبعد أزمة الدولار التي دفعت الرئيس الأميركي نيكسون إلى التخلي عن اتفاقيات «بريتون وودز» جرت عدة محاولات لتحويل الدولار إلى عملة عادية مثل بقية العملات العالمية، لكن الولايات المتحدة استطاعت فرض الدولار كعملة وحيدة للتداول في أسواق النفط العالمية، يعد إصدار اليورو أكثر المحاولات جديّة لطرح عملة منافسة للدولار، جاءت هذه المحاولة بدعم من حلفاء الولايات المتحدة وعلى رأسهم فرنسا وألمانيا، تبدى الصراع بين اليورو والدولار في رفض بريطانيا، الحليف الرئيس للولايات المتحدة استبدال عملتها المحلية (الجنيه الاسترليني) باليورو، ولاحقاً الدعم الأميركي القوي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
على الجانب المعادي للولايات المتحدة، جرى تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون التي أسست بدورها «رابطة البنوك التابعة لمنظمة شنغهاي» التي عقدت اجتماعها الأول عام 2006 وطرحت مجموعة من السياسات المالية والاقتصادية الجديدة، إلا أن الضغوط الأميركية على بعض الدول وخاصة أوزبكستان أفشلت هذا المشروع. المحاولة الأخرى كانت عن طريق تأسيس مجموعة دول الـ«بريكس» والتي ضمّت الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا) وهذه الدول تشكل ربع مساحة اليابسة وتضم 40% من سكان الأرض.
تدخلت الولايات المتحدة في البرازيل وعملت على إسقاط الرئيس لولا دي سيلفا، وكذلك وريثته ديلما روسيف، كما دعمت رئيس الوزراء اليميني ناريندار مودي ليحل محل رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ الذي وقّع على بروتوكول تأسيس المجموعة.
رغم الفشل المتكرر لمحاولات الإطاحة بالدولار إلا أن الأزمات المتكررة التي عانى منها النظام الرأسمالي ابتداء من الانهيار المالي وحتى وباء كورونا، أدت إلى إعادة ترتيب البيت الاقتصادي العالمي بشكل أظهر تراجع الاقتصاد الأميركي عن صدارة الاقتصاد العالمي حسب تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2017 والذي يقدر المساهمة بالناتج الإجمالي العالمي حسب القوة الشرائيةـ تقدمت الصين إلى المركز الأول، تليها الولايات المتحدة، ثم الهند في المركز الثالث، فاليابان، وألمانيا في المركز الخامس وتقدمت روسيا من المركز الحادي عشر إلى المركز السادس، حسب التقرير نفسه يعد المثلث الرأسمالي (الولايات المتحدة، واليابان، والاتحاد الأوروبي)
مسؤولاً عن 39% من الإنتاج المحلي العالمي، في حين يعد مثلث الاقتصادات الصاعدة مسؤولاً عن 31% من هذا الإجمالي.
أمام هذا الواقع الذي يشير إلى صعود قوي للقوى الاقتصادية الجديدة، وتراجع لافت للقوى الاقتصادية الرأسمالية التقليدية، لم يكن بيد المعسكر الإمبريالي من وسيلة إلا الذهاب إلى الحرب.
هدف الحرب وضع المزيد من الضغوط على الاقتصاديات الصاعدة، التي تعد أكثر هشاشة من الاقتصاديات الرأسمالية التقليدية الراسخة، تعتمد الرأسمالية على قدرتها على تحمل تبعات الحرب الاقتصادية (ارتفاع الأسعار، التضخم، تراجع نسبة النمو الاقتصادي) في حين سيكون تأثير هذه التبعات كبيراً على الاقتصاديات الصاعدة، الشرط الأساسي لهذه الحرب كان حدوثها خارج أراضي المثلث الرأسمالي، وهذا ما جعل أوكرانيا الضحية المثالية.
حتى لا نقع في فخ التفكير الرغائبي، نستطيع القول أننا لسنا شهوداً على اللحظة التاريخية التي يعلن فيها سقوط القطب الواحد لصالح عالم متعدد الأقطاب، لأن هذه العملية معقدة وتحتاج وقتاً طويلاً.
ما يسعى إليه العالم اليوم في مواجهة المثلث الرأسمالي، هو إعادة تشكيل النظام العالمي السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بشكل جديد يسمح للاقتصاديات الصاعدة بالمساهمة في تشكيل السياسات الاقتصادية العالمية بما يتناسب مع حجمها الاقتصادي الحقيقي، بعبارة أخرى الهدف هو إنهاء هيمنة القطب الواحد على القرار الاقتصادي العالمي.
التبادل بالعملات المحلية يشكل إجراء مساعداً، لكنه ليس حلاً للمشكلة ولا يمكن أن يكون أداة لتغيير بنية النظام الاجتماعي، الحل المطروح هو عملة عالمية رقمية موحدة يصدرها البنك الدولي بدعم من مجموعة الدول العشرين بما يتناسب مع الحجم الحقيقي لاقتصاديات هذه الدول، هذا الحل سيقوض الهيمنة المنفردة للمثلث الرأسمالي، وإن كان سيبقى صاحب القوة الاقتصادية الأكبر، هذا التحول المتوقع يفسر المقاومة العسكرية الشرسة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عند انتهاء العملية العسكرية بتحقيق الأهداف الروسية، وبدعم من الصين لن يكون أمام المثلث الرأسمالي خيار إلا الرضوخ لشروط إعادة تشكيل النظام العالمي، لأن البديل حرب عالمية نووية لا يريدها أحد.