في زمن توافر الشاشة الزرقاء بين أيدي القسم الأكبر من سكان الأرض، باتت الظواهر الديماغوجية أكثر انفعالاً وتفاعلاً، لدرجة أنها بدأت بالانحلال السريع في كأس ثقافتنا اليومية لدرجة تصديق أطروحاتها ومفرداتها وألقابها، ليس بالعام وحسب، وإنما على الصعيد الفردي أيضاً، وخاصة في مجال الألقاب التي بات السواد الأعظم يتعامل مع حاملها, وكأنها حقيقة لا ريب فيها، والمثال الأكثر طموحاً سنجده في مجال الشعر بالدرجة الأولى، حيث اللقب يتداول بالمجان ومن دون أي رصيد مسبق لحمله، وينتقل حمال اللقب ليكون مديراً لمنتدى أو منصة يقدم على منبرها مفردات لا تتحمل جملة مفيدة ناهيك بأنها لا تمت إلى عالم الشعر على الإطلاق، والأخطر من ذلك هو أن صاحب اللقب بات يؤمن به ويحمله على أنه حقيقة لا ريب فيها، وبات يمنح الآخرين جوائز وثناءات وصفات لا تقل في أهميتها التضليلية عما يحمله هو!! ..
هناك مجموعة من الفرضيات التي جعلت من هذا التضليل ثقافة بائنة، منها مواقع التواصل الاجتماعي التي تمنحك الحرية المطلقة للتعريف بنفسك، وبتجنيس أي منشور حسبما يحلو لكَ من تسميات وما على المتلقي سوى الخضوع لرغبة القائل، وفي حال رفض رغبته، فإن هذا الرافض يبقى في عالم المجهول.. فرضية ثانية لا ترى أي غرابة في هذا المشهد المعاصر جداً، بل إنه استنساخ لمشاهد سابقة، والدليل موجود في مدوناتنا الشعرية الماضوية، التي يُطلق عليها -نقدياً- بشعر عصور الانحطاط، أي أن تهلهل أبيات تلك المدونة، وحمل كتابها لقب شاعر، لهو دليل قطعي على انحطاط العصر الذي أنتجهما معاً.. الفرضية الثالثة يمكن إرجاؤها إلى عصر الاستهلاك الذي فتح أسواقه على مصراعيها، وأن أول ما تم تسليعه فيها هو الإنسان، فانجرف معه الشعر لكونه هو الأصدق في عالمه الداخلي، ولأننا مجرد تابعين لهذا النمط الاستهلاكي فقد بدت لنا الألقاب أكثر إغراء من ابتكار نمط جديد معبر عن هذا الواقع كصرخة ترفض تسليع الإنسانية كما فعل الشعر في المراكز المنتجة لنمط هذا العصر!!..
أعتقد أن جميع الفرضيات متاحة أمام الجميع لإثبات صحتها، ويبقى من غير المتاح دراستها، محاربتها بالشكل الذي يضمن الحد من انتشارها، لسبب بسيط جداً هو أن الجميع غير ناجين من تنمية تلك الفرضيات، على الأقل من خلال «لايك» نضعه على سبيل المجاملة، أو مخاطبة صاحب اللقب غير المؤهل لحمله، بالصفة التي نسخر منه بها، لكننا في ذات الوقت نناديه بها كنوع من التأدب، أي أننا نبرهن من خلال هذا على أن الديماغوجية تنتج نفسها تلقائياً في دواخلنا، ليس على مستوى الشعر والألقاب وإنما على مدار يومنا المستهلك بمخالبها، والذي يمنعنا بدوره على الدوام من اعتمادها فرضية رابعة قابلة للنقاش!!.