لا بد أن تفرض التطورات السريعة -لأي مجتمع- حالة من عدم التوازن النفسي مع تلك القفزات التي سوف تنقل الإنسان بشكل مفاجئ من بيئة أدنى حضارياً، كانت تؤمن له الاستقرار، بمعنى الانسجام مع معطياتها المادية والميتافزيقية، والتي ساهم بصنع إحداثيتها عبر تاريخه، حتى أصبحت جزءاً منه، لا بل أنها باتت تسيطر على مجمل سلوكياته ضمن علاقة جدلية يصعب الإفلات منها، وبات التخلي عنها، بقصد الانتقال إلى بيئة متفوقة عليه حضارياً، يشكل أزمة ، التي ستظهر بأحاديث أفراد المجتمع على شكل حنين إلى الماضي، ممثلاً ب “الله يرحم أيام زمان” وسوف يأتي تحت هذا العنوان هوامش كثيرة لإدانة القيم الاجتماعية المستجدة التي جاءت بها تلك التطورات، ثم وبالتتابع الزمني، سوف يتطور هذا الخطاب ، ويدخل في أعلى مراحله إلى حيز الصراع بين أفراد المجتمع الواحد، ثم ينتقل إلى خطاب كراهية المجتمعات المجاورة، والتي دخلت- أيضاً- بذات المأزق الحضاري الذي يعتقد كل طرف بأن إلغاء وجود الآخر سوف يخرجه من مأزق القهر، الذي بات يسيطر على مجمل سلوكياته -وردود أفعاله، بدءاً من داخل منزله وليس نهاية بخياراته المستقبلية..
الدكتور الباحث مصطفى حجازي، يربط سيكولوجية الإنسان المقهور، بالتخلف، فالإنسان المتخلف في مأزق دائماً، ودائماً يحاول من خلال سلوكه المتطرف السيطرة على هذا المأزق، ليحفظ بعض التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار بالعيش بدونه، هذه الوضعية المأزقيه هي أساساً وضعية القهر الذي تفرضه عليه الطبيعة بالدرجة الأولى، والتي ساهم تخلفه في عدم القدرة على تفسير ظواهرها بشكل يضمن له النجاة من خطر مفاجأتها التي تحيط به على مدار اليوم والساعة، وثانياً الثقافة المجتمعية التي ساهم هو في سيادة قوانينها الوضعية عليه بطريقة سيطرة النقل على ذاكرته الجمعية عبر الأجيال، وفي الوقت ذاته فإن الإنسان المتخلف يبدي محاولات للتخلص من سلطانها، وتنحصر تلك المحاولات إما بالرضوخ والرضا، وإما بالتمرد، وفي الحالتين سيلعبان في تركيبته النفسية دور الحليف للتطرف، الذي سوف يدفعه باستمرار للتخلي عن الأسباب الموجبة التي ساهمت في تهميشه أمام ثقافة الحاضر ومنجزاته المادية، والتي لن يكون باستطاعته التخلي عنها مهما ترحم على أيام زمان، فالحضارة الطارئة بكل أنساقها المعرفية تفرض على الإنسان كفرد، وعلى المجتمعات بالعام، خيارين لا ثالث لهما: فإما أن تكون جزءاً مساهماً في بنائها، وبذلك تستطيع التأثير على مسيرتها لصالحك، ولصالح مجتمعك، وإما أن تكون لها عبداً، يجتر القهر، ليعيد إنتاجه على شكل ثقافة مجزأة قوامها التطرف، بينما الحضارة الحديثة سوف تتابع إنجازاتها المعرفية، وسوف تكون استهلاكياً بامتياز، ومجبراً على السير في ركابها من دون قرار، وسوف يتابع روادها استغلالك، وقهرك، وتطرفك لمتابعة خطاب الكراهية الذي لا طائل منه!!..