ما بعد الجغرافيا
في تطور لافت، أعلن السيد بسام طعمة وزير النفط والثروة المعدنية السوري اتفاق وزراء النفط العرب في لقائهم الذي عقد قبل أيام، على ترؤس سورية لمنظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك Oapec) اعتباراً من كانون الثاني 2022 وحتى كانون الثاني 2023، كما اتفقوا على استضافة سورية لمؤتمر الطاقة العربي لعام 2024.
يأتي هذا الخبر تتويجاً للحراك السياسي والدبلوماسي الذي شهدته المنطقة خلال الفترة الماضية، وما نتج عنه من إعادة فتح الحدود الأردنية- السورية للتجارة والسياحة، وزيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، واتفاقية تزويد لبنان بالكهرباء الأردنية بواسطة خط الربط العربي المار من سورية.
هذا الانفتاح السياسي فسره الكثير من المحللين بأنه جاء في سياق حل الأزمات الاقتصادية التي تضرب الأردن ولبنان وأن الحضور السوري كان بحكم الجغرافيا وليس السياسة.
تقف نظرية الجغرافيا عاجزة أمام التطور الأخير، إذ يشير إلى أن الحضور السياسي السوري فرض نفسه على القرار الذي اتخذه وزراء النفط العرب، ما يحيلنا إلى نظرية الجغرافيا السياسية كما أشارت إليها دراسة نشرها مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية (CISS) عام 2017، أوضحت العوامل التي تجعل سورية لاعباً فاعلاً في سوق النفط العالمية وهذه العوامل هي:
1- على الرغم من أن سورية لم تعد قادرة على تصدير النفط بسبب الحرب، إلا أن موقعها الجغرافي المجاور للعراق، وتركيز الأحداث في منطقة الشمال الشرقي يجعل إمكانية امتداد المعارك إلى شمال العراق حيث تقع آبار النفط الرئيسية، تهديداً دائماً لا يمكن التغاضي عنه.
2- أي توسع للحرب في سورية يمكن أن يستدعي رد فعل عسكرياً من إيران أو روسيا، يحمل في طياته احتمال مواجهات مع تركيا أو الولايات المتحدة، أو “إسرائيل”، وأي حرب في المنطقة ستؤثر بحدة على أسواق النفط العالمية.
3- الحرب في سورية تحمل في طياتها مواجهات دولية، هذه المواجهات يمكن أن تنعكس على الاتفاقيات التي تتحكم بحصص الإنتاج داخل أوبك، وكذلك الاتفاقيات بين أوبك والدول خارج المنظمة وأهمها روسيا.
تستنتج الدراسة أن سورية لم تفقد دورها في الجغرافيا السياسية الإقليمية رغم الحرب والحصار وتراجع إنتاج النفط.
بل إن هذا الدور ازداد بسبب مشاركة أطراف دولية وإقليمية فاعلة في هذه الحرب.
قد يبدو الإجماع العربي على رئاسة سورية لمنظمة أوابك، خطوة صغيرة أخرى باتجاه عودة العلاقات العربية مع سورية خاصة في ظل تصاعد الحديث عن النية لدعوة سورية لحضور القمة العربية القادمة في الجزائر.
لكن التعمق في التحليل لا بد وأن يعيدنا إلى “قانون قيصر” الذي يشكل الحصار النفطي أحد أعمدته. في نفس الوقت تعتبر الولايات المتحدة أن سيطرتها على حقول النفط السورية أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها لتشديد الحصار الاقتصادي على دمشق.
من المعروف أن منظمة أوابك مثل كل المنظمات المتعلقة بالنفط، تتخذ قراراتها من خلال المزج بين السياسة والعمل التقني القائم على التنسيق والتعاون بين الدول الأعضاء في المنظمة. هذا التعاون في مجال إنتاج وتصدير النفط يشكل كسراً عملياً لبنود” قانون قيصر”.
قد يرى البعض في هذا التحليل بعضاً من التفاؤل الزائد، أو تحميلاً للحدث أكثر مما يحتمل، وهنا لا بد من العودة إلى قرار استضافة سورية لمؤتمر الطاقة العربية في العام 2024.
نذكر جميعاً أن الموافقة على تفعيل خط الربط الكهربائي العربي جاءت من بيروت وبالتحديد من مقر السفارة الأميركية في عوكر. تدل هذه الحادثة على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لموضوع الطاقة، كما يشير إلى أن الدول الحليفة للولايات المتحدة قد حصلت على الضوء الأخضر الأميركي للموافقة على الاستضافة السورية للمؤتمر، هل يعني ذلك تراجعاً أميركياً عن شروط قانون قيصر؟
تعيش الولايات المتحدة اليوم أكثر من أزمة، وتكاد المواجهة مع ثلاثي إيران، الصين، وروسيا أن تكون العامل المشترك بين كل هذه الأزمات، من أفغانستان إلى بيلاروسيا إلى بحر الصين الجنوبي.
يُضاف هذا إلى اندفاع الدول الثلاث إلى توسيع نفوذها في سوق الطاقة في منطقة شرق المتوسط التي كانت حتى زمن قريب ملعباً حصرياً للشركات الغربية.
في هذا السياق لا يمكننا إهمال العروض المتكررة التي تقدمها روسيا لمساعدة لبنان في مجال إنتاج الطاقة، والمشاريع التي نفذتها الصين في مجال إنتاج الطاقة البديلة في الأردن وأشهرها مشروع العصارات الذي يتعرض لهجوم شديد في محاولة لإغلاقه.
على الجانب السياسي يبدو خبر المباحثات الإيرانية- السعودية في العاصمة الأردنية عمّان كخطوة أخرى باتجاه التعامل مع إمكانية رفع العقوبات الأميركية عن إيران في إطار مفاوضات فيينا.
تدرك الولايات المتحدة أن رفع العقوبات عن إيران يعني اجتياحاً اقتصادياً إيرانياً للإقليم، لذلك تعمل الولايات المتحدة جاهدة لإعادة ترتيب الأوضاع الاقتصادية في المنطقة بشكل يضعف النفوذ الإيراني الروسي المتوقع.
في خلاصة سريعة، تشير التغيرات في المواقف العربية من سورية، وخاصة تلك الدول الدائرة في الفلك الأميركي، إلى قناعة أميركية بأن الدور السوري في الجغرافيا السياسية لا يمكن تجاوزه، وأن أي تسوية حقيقية في الإقليم لا بد وأن تمر من بوابة دمشق.
لقد أثبتت سنوات الحرب والحصار أن الصمود السوري لا يعبر عن إرادة سياسية صلبة فحسب، ولكن عن بعد نظر إستراتيجي يدرك أن الصمود والانتصار لا بد وأن يترجم إلى مكاسب سياسية واقتصادية تعزز الموقع الإقليمي لسورية وتحرر إرادتها السياسية.