– لماذا لا تكتبون عن همومنا، معاناتنا، تطلعاتنا: هو السؤال الأكثر مصادفة الذي يعترض كتاّب اليوم، ويأخذ شكل التهمة الشعبية المعلنة الموجهة إلى الكاتب، ولا أحد يستطيع الإجابة، لا بل إن البعض منهم يشارك بإثبات التهمة الموجهة بالإشارة إلى أسباب خارجة عن إرادته، متجاهلاً بقصد، أو من دون قصد أن الأسباب التي أشار إليها في مرافعته العصماء ليست سوى أدلة دامغة تؤكد فشله بأن يكون مسؤولاً مباشراً عن كتاباته، وعن النسق المعرفي الذي يحمل صفته كلقب رسمي يقدم به إلى الآخر.!
– هل نسأل السائل ماذا يريد أن نكتب له، أم إن الكاتب مطالب بالبحث عن إجابات أعمق من سذاجة السؤال الذي يفترض الإدانة أكثر من افتراضها لأجوبة تبتغي إيجاد حلول لدفن المعاناة في مقبرة التاريخ إلى الأبد: في الجزء الأول سوف يقدم السائل أجندة لا تنتهي عن معاناته اليومية، وكيف تحول إلى كائن هلامي بعيد عن شرطه الإنساني، وليس هناك من شكٍ بأن تقنين الخدمات المدنية، وضيق ذات اليد الذي بات صفة معاصرة لكل يد نظيفة، قد جعلت منه كائناً يبحث عن قوقعة ليختبئ بها أكثر من بحثه عن حلول تعيد له هيكله العظمي، لا بل إنه يحمّل الآخر مسؤولية وأده حياً من دون جنازة. في الجزء الثاني الذي يخص الكاتب، سوف يقدم الكاتب نفسه كضحية لا حول لها ولا قوة سوى متابعة النزف بوريدين؛ وريد الحاجة التي يسأل عنها الأول، ووريد الساكت عن الحقيقة، والتي يدعي أنه يعرفها ولا يجرؤ على البوح بها، وهنا سوف يأتي سؤال ثالث: هل بقي للسر مكان في عالمنا الحاضر؟، بالتأكيد سيكون الجواب: بـ«لا»، وسوف يطالبنا السؤال بإعادة الاعتبار لأجندات حذرت في الماضي من خطورة الانفجار السكاني في البلاد الفقيرة، خطورة الهجرة من الريف إلى المدينة، خطورة التصحر والعبث بمصادر المياه من دون رحمة، خطورة الحياة الاستهلاكية بعيداً عن مقومات تبرر وجودها.. إلخ من تلك المخاطر التي انغمسنا في تجنيدها حتى وصل بنا المحال إلى ما نحن فيه، فهل يقبل الجزء الأول، السائل عن مثل هذا القول، الذي سوف يضعه أمام مسؤولياته التاريخية، بعيداً عن الجري خلف سلة المعونات، بكل صفاتها الطارئ منها والمنتظر، إذا كان الجواب: بنعم، فإن الكاتب أيضاً مطالب بأن يتحمل مسؤولياته في نقل معاناة السائل بشفافية إلى المستوى الأعلى، والبحث عن حلول لإبعاده عن المخاطر التي آلت به إلى هذا المصير، أما إذا كان الجواب: بـ«لا»، فالدائرة ستكون حجر رحى لطاحون لا تفرق بين القمح والزيوان، وسوف يمقت السؤال ذاته ليكون مركزاً لتلك الدائرة الرعناء !.