المدينة امرأة تلهيكَ بالتفاصيل لتبعدك عن لون شعرها السائل بين أصابعكَ على شكل نص سردي يحتمل أن يكوّن قصيدة، مثلما يحتمل أن يكون شارعاً يضفره الليل برصيفين، ونسمة باردة قادمة من عمق الضباب: هي دعوة لأن تلمسه بلطف العابد، برعونة الخائف، بقسوة الجوع إذا ما كان الرغيف الذي تبحث عنه مجرد سراب لن تدفئ أجنحته واجهات المحال التي ترفرف لكَ بمزيد من النفي كلما نظرت إليها..
ليس هناك استثناءات، هناك زمن مستعمل في كل الفصول، تماماً كما الشوارع التي تنتقل بكَ من تقويم إلى آخر من دون أن تمنحك رقماً على الجانب المتهالك ليمين الصفر، كنت مطالباً أن تمنح نفسك فرصة للسؤال عن عدد الخطوات التي قطعتها، لكن شارات المرور التي تحيط بكَ من جميع الجهات ستمنعك من العبور، لتجد نفسك محاصراً بين الزمن ونقيضه، وستعترف لنفسك -سراً- بأن البلاهة وحدها هي القادرة على إنقاذك من هذا الدوار، لكن هذا الاعتراف بحديه المشفرين يمقت غرورك، ويدعوك للاستشفاء بزاوية مقهى اعتدت بالماضي أن تعاقر ضجيجه بفنجان قهوة مازال يفور بالحنين إلى من رحلوا، لا بل يدعوك لأخذ صورة “سيلفي”، والزج بها بين قضبان صفحتكَ الزرقاء، لتوثق انتظاركَ بين صرير الكراسي الخاوية، كمحاولة أخيرة لاستعادة الزمن من بين براثن الرحيل، ولربما لإبعاده عن الاستعمال مرة أخرى، بعد منتصف الليل ستسير بكَ الشوارع وحيداً بين أقفاص تستحوذ على نصفكَ الآخر بذراع تمتد لتمسك بكَ كلما تكاثف البرد أكثر، كلاكما يشكو من رعونة الانسياق خلف الصقيع الذي يداعب أسفل الأقدمين في رحلة تطالبكَ أن تلمس شعرها بعفوية الضال بين تلال من العتمة التي تستجير بفضاء المصابيح المتدلية من أعلى أعمدة يُقلد قوامها المنحني نحو الأعلى مشية قرصان بالغ في خوفه وهو يسترق السمع إلى عويلك المخنوق ببضع ضحكات مجنونة قمت بغوايتها وأنت تقطف من العبور -إلى الضفة الثانية- الأمل بأن يكون الغيم حانة تمشط شعرها ببعض من دفء، كلاكما يبحث عنه، حتى إن المدينة ذاتها افتضحت أمرها -أيضاً- وتشاركت بذات التقاسيم المكررة التي جعلت من أن يكون الزمن مستعملاً داخل عيون كليلة، طالما ظن بها العمود حامل المصابيح بأنها تبصر، فاقتفى مكانه في الثبات مذ كان فلزاً في ذاك الكهف المظلم الذي نظن أننا تجاوزنا رطوبته ببعض الأحجار المرصوفة بأبراج تستجدي، مثلنا الآن، الغيم لتمشط شعر أنوثتها ببعض الدفء: هي ليست حكاية، بل تاريخ أغوته الأصفار لتكون جزءاً من تفاصيل لا عنوان لها سوى أنك تتأبط ذراع امرأة لتعبر إلى شارع آخر، لمدينة أخرى كنت تظن بأنها نجاتك من أن تكون مرساة، أو مجرد شوق عبثي للهروب من زمن بالغنا في استعماله حتى غدا دائرة تتزاحم أصفارها للخروج عن مركزها من دون جدوى!..