بالعودة للمدونات الأولى التي أنتجها الإنسان على شكل نصوص قابلة للتداول والدراسة، سوف نصل إلى نتيجة مفادها يجزم بأن الشعر- بالمفهوم الحديث للمصطلح قد شغل القسم الأعظم منها!.
– ما هو الشعر؟
عند تجاوز التعريفات التقليدية التي تشير بمجملها إلى أن النص الشعري مطالب بأن يوفر حالة من الإدهاش، المتعة، الفائدة، المرهونة جميعها بقدرة الشاعر على تسخير اللغة لتغدو جملها صوراً منسجمة تعالج موضوع ما يمسّ الواقع برؤية جديدة يبتغي الشاعر تقديمها لغاية في نفسه، سوف يقترح هذا التجاوز تفكيك البنية التقليدية، ليس للنصوص وحسب، بل للمدونة النقدية، القديم منها والمعاصر، وبالتالي سنتجاوز مفهوم الأزمة التي تعصف بالشعر الآن، لنصل إلى حيز الأزمة الثقافية التي باتت واقعاً يعصف بالمجتمعات الراهنة، ويحيلها إلى أدوات حربية بعيدة عن مصالحها بسيادة الأمن والسلام، وهنا سوف يعترض أحدهم ليقول: ما علاقة الشعر بكل ما يحدث، متناسياً بأن المدونة المقدسة التي حكمت مسيرة المجتمعات القديمة، وكانت سبباً في الجزء الأكبر من تطلعاتها المستقبلية، ومن سيادة القانون فيها، قُدمت على شكل نصوص شعرية، كـ”ملحمة جلجامش” على سبيل المثال لا الحصر.
– ما هو الشعر، وما الدور المنوط به؟.
لقد كان النص الشعري في المجتمعات القديمة ذات بنية عفوية، قائمة على الحاجة الماسة إلى تفسير المجهول، والسيطرة علية، والانسجام معه، وجعله قانوناً يطول برؤيته الجميع، فشهد تكافؤاً مألوفاً بين الدنيوي والمقدس، نظراً لانفتاحه المبدئي على السياق الذاتي والآني، لكن وبعد أن تشكلت التقسيمات الثقافية، وحضرت الإحالات المرجعية كفعلٍ واعٍ ممتزج مع أنانية الهيمنة على الآخر، تحول إلى دعوة خفية لتعزيز الصراع، ومن ثم- في زمن العولمة- إلى أداة لطمس الهويات الثقافية، وجعلها بحالة من الفوضى عبر إرجاء الآني وتفعيل الثقافة المكتسبة من دون الحيازة الحقيقية لهويتها المعرفية، وسنلحظ هذا من خلال المنجز الشعري الورقي، وأيضاً المدون على صفحات التواصل الاجتماعي، وإن بات الموضوع خارج السيطرة، فإن النقد مطالب بإعادة النظر في مناهجه وتجاوزها، من خلال تقسيم الفعالية الشعرية إلى بُعدين، أولهما الأخذ به كبُعد بيولوجي يتحكم بالفطرة الثابتة في تكوين الإنسان ومتطلباته الغريزية، وثانيهما كبُعد ثقافي غير ثابت، يجدد الرغبة في الحركة وتجاوز المألوف، مع الأخذ في الحسبان الشروط المعرفية التي تحكم خط سير هذا التجاوز، وبذلك سيكون الشعر ليس دليلاً للوصول إلى البنية المسكوت عنها في المجتمع وحسب، وإنما أداة للارتقاء بالمجتمع بعيداً عن سلطة الهيمنة التي تقوم العولمة على ترويج ثقافتها بالإعلاء من شأن الفوضى، تحت ستار الحريات الفردية التي سوف تعيدنا -بحسبما تأمل العولمة- إلى غرائز ما قبل الشعر، في حين أن الدراسات الحديثة تجزم بأن مجتمع الرفاه يقلص تمكن الغريزة من السيطرة على سلوك الإنسان، ويرتقي به إلى مراتب الجمال الذي به يستطيع أن يكون حراً، حتى في اختيار قصيدته إبداعاً وتلقّياً.