أيتها الكلماتُ الكلماتُ ماذا تريدين منّي؟ أيتها اللغة الرجراجةُ، الزئبقية، الشائكة، القاسية… كيف يمكنُ اصطيادُك!؟
كلما جلست لأكتب قوس قزحي تتفلّتُ الأفكار منّي مثل أرنب الحكاية وتختفي في قبعة الساحر.. تتسرب الأبجدية حرفاً حرفاً من جُبّ عقلي مثل ماءٍ يتسرب من خزانٍ طوال الليل نقطةً نقطة.
أشعرُ لو كتبتُ عن مشاكل الناس المعيشية؛ عن السكر والسمنة والخبز وزيت القلي والبيض و… أشعر كما لو أني تحولت إلى “شرحة” بطاطا محروقة بنار الهموم، وأنّ دمي يغلي مثل زيت محركات الباصات المهترئة، ويبدأ الدخان الأسود يتصاعد من دماغي كأن حمّى الكوكب استقرت فيه.
ولو أنّي كتبتُ جملاً رومانسيةً غنائيةً محمولةً على هدهداتِ الشِّعر وغيماتِ الموسيقا وأكفّ الإيقاعات المرحة… سأصبحُ مثل مجنونٍ يغنّي في الطاحون؛ لا هو يسمعُ نفسه ما الذي يقوله، ولا الآخرون يفهمون عليه ماذا يفعل وماذا يريد!
أيتها الكلمات الكلمات ماذا تريدين منّي؟ أيتها المفرداتُ العصيّةُ القصيّةُ، أيتها اللغة اللعوبُ الغاوية…كأنك لا ترضين حتى تمتصين نسغ أفكارنا حتى آخر شهقة! كأنك لا تستريحين على عرش سلطانك حتى نشقى ونُدمى ويُغمى علينا من فرطِ التفكّر بكِ وبأحوالنا ومآلاتنا! كأنك تصلبينَ كتّابَكِ ومحبيكِ على جدار الوقت وتعذّبينهم بالأرقِ الأبديّ والتذمّر من كل شيء.
أفكّرُ، هل يمكن أن تخلو اللغةُ من مفردات مثل: البشاعة، الألم، المرض، الفقر، الكآبة، الهلوسات، الحرمان، الجوع، الانسحاق…؟! هل تبقى اللغة صالحةً للعيش حينها؟ أي جنون سنحيا به فيما لو لم نستطع أن نتفوّهَ بأوجاعنا، وأن نعبّرَ عما يسكن تحت جلدنا مثل الشوك أو تحت أقدامنا مثل كسراتِ الزجاج!
لكننا بشرٌ مصنوعون من الكلمات، بجمالياتها وقُبحها، بنبالتها وخِسّتِها، بعظمتها وتفاهتها… ولذلك وبسببه وبالرغم منه لا بدّ أن نختار من نكون!. فيا أيتها الكلماتُ الحنون ترفّقي بنا.