في البيئة الفقيرة التي عاش فيها مع إخوة أربعة، كان الأقلّ حضوراً في فوضى الزوار الذين لا يحفلون بالمواعيد ولا بتقاليد الزيارات، إذ سرعان ما يختفي في مكان منعزل، رغم معرفته أنه سيكون منسياً من وجبة طعام قلما كانت تكفي الأسرة حتى الشبع، فكيف إذا توفرت حلوى مناسبات أو وفرة طارئة من زائرٍ أو قريب؟
كان يسطو، بكل معنى كلمة السّطو، على علبة البسكويت الفارغة، المصنوعة من كرتون بنّي لا براعة في تلوينه أو تزويقه، ويضعها مع كيس الزعتر وعلبة المناديل الورقية والكبريت وأغلفة المجلات فلا تراها العين إلا نفايات يجب رميها خارجاً بينما يكون قد ادّخرها لأيام العطلة بحرصِ من يخاف على أنفاسه! في عزلته غير الآمنة، المستباحة بمكنسة الأم، وسخرية الإخوة، كان يستخدم مقصّاً صدئاً مخلخلاً لصناعة جنود من الكرتون، يجعلهم رتلاً متواصلاً ثم يوزعهم في ساحة ولا أدري إن كان يوزع عليهم المهام العسكرية، لأنه لم يُتَح لي اختراق عزلته حتى عندما طوّر “مقصوصاته” إلى أشكال ريفية ثم زوار مقاهٍ وأسواق خضار!
الطفل لم يلقَ انتباهاً من أحد! لم ينتسب إلى مركز رسم يُعنى بالموهوبين! لم يلحظه أستاذ ليأخذ بيده إلى عالم الفن الرحيب! لم يجد في محيطه من يهتف مجاملةً أو تشجيعاً:- يا الله هذه اللوحة سأزين بها جدار الغرفة ليعرف فرحة الفوز ونرجسية الفنان، وحين تقاطعت بيننا الطرق أيام الحرب على سورية أهديته ورقاً وألواناً وكان قد شبّ عن الطوق، لكنني لم أرَ كيف استخدم المواد والألوان ولا إن كان غادر مرحلة صناعة فنه مما توفر له من “ثروات” لا تُقدر بثمن!
ذلك الطفل الخجول الذي صنع زورقاً غادر فيه واقعه من دون أن يعوقه عائق، صار طالباً في كلية الفنون الجميلة ولم تذهلني “الاسكتشات” التي برع فيها ولا ما خرج منها على شاكلة ذكريات طفولته، التي لم أسمعها منه مرويةً، بل رأيتها في الخطوط اللينة البارعة وفي عذوبة نظرته إلى العالم، الذي لم يكن رحيماً به كما يخطر لأي إنسان يرى الطفولة مراحاً ومباهج وكفاية ورعاية!
لكم تأثرنا بسيرٍ ذاتية لفنانين لم نعرف فنهم كما يجب أن يُعرف: الأسلوب والمدرسة والتجديد والفرادة، لأن حياتهم كانت تفوق الروايات التراجيدية، ولأنهم طبعوا الحقب الزمنية التي عاشوا فيها بأسمائهم ومزاجهم العالي وقدرتهم على خدش القبة الزجاجية التي يرتاح تحتها الكسلُ الإنساني، وأعترف أن الشيء الوحيد الذي تفّوق على جماليات الرواية الأدبية، هي سيرة حياة فنانين تشكيليين بدءاً من لؤي كيالي وليس انتهاء بفان كوخ!