أرشِفوا حياتكم ..!

ينتابني الرعب كلما فكّرتُ بمرض «الزهايمر» وكيف أن كوناً بحاله وعمراً بأكمله مكوناً من آلاف التفاصيل والشخصيات والأحداث والأماكن والدموع والضحكات والآلام .. كل ذلك بضربةٍ من مخلب النسيان يصبحُ فجأةً كأنه لم يكن! كأنه يدخل في تجربة موتٍ مؤقّتٍ كبروفة مسرحية قاسية، لكنها مع ذلك تحمل عِبرةً ما.
صحيحٌ أنه من الصعب جداً أن نُفصّلَ حياتنا على مقاس أحلامنا ورغباتنا .. صعبٌ أن نجعلَ اللحظات الجميلة تتطاولُ أو تقصُرُ حسب مشيئتنا، فللزمن دائماً حكمته البالغة في التفلّت منّا وخداعنا.. له حكمته البالغة في القهر، في سحقنا تحت ثقل عدم القدرة على أن نطولَ أو نمسكَ باللحظات المتسرّبة كالرمل من بين الأصابع.
تقولُ الحكمة العربية ما معناه: «لا تقبضْ على الرملِ بقوّة، لأنكَ إنْ حاولتَ ذلك، تفلّتَ وتسرّبَ منك، إنما دَع يدكَ مبسوطةً، ملتصقةَ الأصابع، واحْمِلهُ برفقٍ كأنك تحمل ريشة!».
إنها حكمة الرّقة في التعامل مع أصعب الأمور، حكمةٌ هي نفسها تتفلّت منّا أيضاً، ولا نقدر عليها لأننا مجبولون بغريزة البقاء الأقدم من تعقّل الفكر، والتي تفرض حتى على أصابعنا أن تكون مستعدّة للتشابك والقتال، قبل أن تكون مستعدة للعشق والتلامس.
لكن مع جحيميات التقنيات المتسارعة في تشابكها ورعبها، ومع الخلل الأخير الذي عطّلَ «الفيسبوك» كمنصّة إلكترونية لحفظ حياتنا بتفاصيل أفراحنا وأحزاننا وحتى أنفاسنا اليومية.. مع هذه الثورات التقنية المتفلّتة من عِقال العقل وروحانيّة الروح، وبرغم «الحزن الساكن فينا ليل نهار/ وبرغم الريح والجو الماطر والإعصار».. لحظة.. لحظة يا شباب أخذتني الحميّةُ كالعادة وشردتُ ورحتُ أغنّي لعبد الحليم حافظ!
كنتُ أقول: برغم كوارث الذكاء الإلكتروني والتزوير الحاصل في كل مكان.. أرشِفوا حياتَكم أيها الأحبّة! أرشفوها جيداً وعميقاً في قلوبكم وفي مساماتكم ما أمكن، فالمفارقة القاتلة هي أن ذاكرتنا تعمل جاهدةً على ترتيب اللحظات وتأريخها خوفاً من حركةٍ طائشةٍ من ممحاة النسيان، فيما نحن -كما يقول الروائي كونديرا- «مفصولونُ عن الماضي بقوتين تباشران العمل وتتعاضدان: قوةُ النسيان (التي تمحو)، وقوةُ الذاكرة (التي تُحوِّر)!».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار