بعد أن كتب «عودة الروح» بسنوات، عاد «الوعي» إليه فنسف كلَّ ما كتبه هناك، من باب المراجعات المسموح بها للكاتب، باعتباره من نخبة مبجّلة لها منطوقها شبه المقدّس، فكتب «عودة الوعي» الذي لم يكن إلا في خدمة مرحلة سياسية هدمت كلّ ما قبلها، وكان سهلاً على هذا الكاتب الشهير أن يختصرها بشخص زعيمٍ رحل فاستخدم كلّ مواهبه الروائية والمسرحية ليحطّم مرحلةً مضيئة من تاريخ أمّته، من دون أدنى شعور بالغضاضة، أو الحياء الذي يجعل النادم فريسةً لمشاعر الذنب! في «عودة الروح» كان فصيحاً واضح البيان وفي «عودة الوعي» كان فصيحاً واضح البيان أيضاً، فهو موهوب ومكانته العالية اكتسبها من الحقبة الأولى التي ذمّها ذمّاً واسعاً بلا حدود، حيث ليس من محاسِبٍ ولا قاضٍ، اللهمّ ما عدا بعض النقّاد الذين ذكّروه، برفق، بنقل قلمه من كتفٍ إلى آخر كاستعارة من نقل بندقيّة مقاتل من ساحة الصديق، إلى معسكر العدوّ!
في مكان آخر، وقارّةٍ أخرى، ولغةٍ مغايرة، سيعود «الوعي» إلى كاتب آخر، لم يختبر تجربتنا المرّة مع عدو استيطانيّ اقتلع شعباً من بيته وأرضه وجنّد العالم والمال والمؤسسات والأساطير وكتابة التاريخ البشري برمّته بحكاوى توراتيّة، وهو كاتب كُرّس علماً من أعلام أمريكا اللاتينية التي استحوذت على الأدب العالمي المعاصر، وكان منبهراً ببلد محدَثٍ شرق المتوسط، بعيداً عن بلده الصغير «البيرو» حتى جاء لزيارته ورأى محاكمة فتيان الانتفاضة أمام «قضاة» هم الجلادون، ومشى، ربما، بين ركام البيوت التي هُدمت على رؤوس أصحابها كعقوبة على رمي أطفالها الحجارة على دبابات المحتل، المختال بتفوقه «الحضاري» والناريّ، وسيعلن صديق الماضي خجله من هذه الصداقة وسيكتب أنه شعر بالاشمئزاز من البؤس الفظيع الذي لا يوصف لأناس بلا عمل ولا مستقبل ولا مجال حيوي، إنها الأسر الفلسطينية المحكوم عليها بالعيش كالنبات بانتظار الموت لتضع حداً لوجود بلا أمل، في انعدامٍ قاطع لما هو إنسانيّ!
الكاتب البيروفي سمّى غزة من دون أن يزورها كما فعل ببقية فلسطين، بالمعتقل النازيّ من دون وجلٍ من قانون معاداة السّامية، الذي يُشهر في وجه كلّ من يجرؤ على انتقاد الكيان الاستيطاني، ولطالما عوقب كتاب ومفكرون، خارج محيطنا الجغرافي، بالعزل والتشهير أما الصوت العربي فللقتل والاغتيال والزنزانات، وبين هذا وذاك لا يمكن أن يزول الحق! بين هذا وذاك سيبقى ميزان العدل مضطرباً لا يعرف الثبات، حتى يتمكّن الوعي! وشتان ما بين عودة «وعي» «توفيق الحكيم» وعودة وعي «ماريو فارغاس ليوسا» حيث لا تلتبس خطوطٌ ولا مسافات ولا رؤى ولا آفاق، وحيث يبقى «الأدب» رديفاً للنضال، كالسيف حين يواجه الظلم وفجور القوة الواضحة كضوء النهار!