بدأت الهيمنة السياسية الأمريكية على أوروبا الغربية بعد سقوط النازية ودخول الجيش الأمريكي إلى أوروبا، وقد استمرت هذه الهيمنة بأشكال متعددة حتى اليوم، فالولايات المتحدة غالباً ما تجبر حلفاءها في الاتحاد الأوروبي على اتخاذ المواقف التي تريدها من دول العالم، ورغم تململ بعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا وألمانيا، إلا أنها في النهاية تنصاع إلى القرار الأمريكي، وهذا ما بدا واضحاً في القرارات الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الولايات المتحدة على سورية، حيث حاصرتها سياسياً واقتصادياً أيضاً حسب ما يسمى “قانون قيصر” كما ضغطت على حلفائها في الاتحاد الأوروبي للانصياع إلى قراراتها، هذا ما أوضحه موقع «غلوبال ريسيرش» في مقال تحليلي جاء فيه:
هل تتمكن أوروبا من الخروج من عباءة الهيمنة الأمريكية لتكون قطباً عالمياً جديداً يقيم حالة من التوازن المتعددة الأركان بين روسيا والصين والولايات المتحدة التي تريد الاستمرار في احتلال مركز القوة الأولى عالمياً؟.. سؤال عاد ليُطرح بإلحاح مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
يرى المؤرخ الفرنسي جان جاك بيكر أن الحرب العالمية الأولى سجلت وصول الولايات المتحدة إلى الساحة الدولية التي لم تخرج منها بعد ذلك، حتى أنها احتلت فيها تدريجياً المكانة الأولى على حساب أوروبا.
ويقول المؤرخ والخبير الاقتصادي الفرنسي أوليفيه فيرتاغ: ما من شك قطعاً أن الحرب العالمية الأولى -بتغييرها النهائي لتوزيع الاحتياطات المعدنية- كانت السبب في التفوق العالمي للعملة الأمريكية الذي طبع كل القرن العشرين، مشيراً إلى أن أوروبا انتقلت بين 1914-1919 من موقع الدائن لبقية العالم إلى موقع المدين.
بعد الحرب العالمية الأولى قال الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون: «إن بريطانيا تمتلك العالم وألمانيا تريده» وذلك في إشارة منه إلى ضرورة البحث عن مكانة الولايات المتحدة الأمريكية وسط الأطراف الأوروبية المتهالكة إثر الحرب، وكان تحليله ذلك تحولاً تاريخياً في الحياة الاقتصادية الأمريكية ومسارها الفعلي نحو الهيمنة على مقاليد الأمور في العالم بعد أن كانت إمكانياته الاقتصادية العظيمة مكبوتة قبل الحرب العالمية الأولى بفعل نظامها السياسي غير الفعال ونظامها المالي المختل وصراعاتها العمالية والعرقية العنيفة، وأضاف: إن أمريكا كانت مثالاً للفساد المدني وسوء الإدارة والسياسات المدفوعة بالجشع، بالإضافة إلى النمو في الإنتاج والربح، وكان ويلسون يبحث عن ترسيخ السيادة الأمريكية في ظل التهاوي الأوروبي، وقد استمر هذا الوضع لمن تبعوه من ساسة واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.. وهكذا كانت أوروبا نافذة الولايات المتحدة للهيمنة على العالم، فيما انتقلت هي، أي أوروبا، من مرتبة الدول الاستعمارية الأوسع سيطرة عالمياً إلى مرتبة ثانوية بعد أن حلت الولايات المتحدة محلها كقوة استعمارية بأساليب متجددة.
لقد استطاعت الولايات المتحدة أن تفرض هيمنتها السياسية على أوروبا، لكن أصواتاً بدأت عالية من بعض الزعماء الأوروبيين تدعو إلى فض الشراكة السياسية مع أمريكا وخاصة الصوت الألماني الذي جاء على لسان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والتي صرحت من قبل أنه يتوجب على الأوروبيين تولي مصيرهم بأنفسهم لمواجهة الانقسامات التي يشهدها التحالف بين دول الغرب إثر «بريكست» مضيفة: علينا أن نقاتل من أجل مصيرنا، مشيرة إلى أن العلاقات مع فرنسا يجب أن تكون وطيدة أكثر.
وتابعت: إن الزمن الذي كانت الثقة فيه سائدة وكان بإمكاننا الاعتماد كلياً على بعضنا البعض قد ولى، وهذا ما اختبرته في الأيام الأخيرة، في إشارة من ميركل إلى العلاقة مع الولايات المتحدة التي اهتزت خلال زيارات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى أوروبا.
ثم تصاعدت حدّة اللهجة بين ترامب وميركل بعد أن شن ترامب هجوماً لاذعاً على ألمانيا ليصل التوتر بين البلدين إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ الحديث، وكتب آنذاك في تغريدة : لدينا عجز تجاري هائل مع ألمانيا، إضافة إلى أنهم يدفعون أقل مما يجب لحلف شمال الأطلسي وهذا أمر سيء جداً للولايات المتحدة وسيتغير.
لكن ميركل عادت وأكدت أنه من الضروري أن تصبح أوروبا لاعباً نشطاً على الساحة الدولية وخصوصاً بسبب السياسة الأمريكية، لكن أصواتاً أوروبية، وخاصة في ألمانيا قالت بأن ألمانيا لا يمكنها الخروج من العباءة الأمريكية لأنها لا تملك السلاح النووي، بينما قالت أصوات أوروبية أخرى بحدة أكثر بأن فرنسا تملك سلاحاً نووياً ويمكن لألمانيا بفضل مفاعلاتها النووية وتقدمها في هذا المجال أن تتحول إلى قوة نووية خلال أسابيع.
وبرأي الخبراء الغربيين فإن المحور الألماني- الفرنسي يمكن أن يلعب دوراً استراتيجياً في قيادة أوروبا قوية شريطة أن يسعيان معاً وبقوة إلى إعادة إحياء هذا المحور بعد بحث ومعالجة العديد من القضايا والتي يأتي في مقدمتها ملف الأمن، إضافة إلى تجاوز الإشكاليات المتصلة بالإصلاحات المالية في الاتحاد الأوروبي والتقدم في تحقيق استثمارات مشتركة.
ويؤكد خبراء غربيون أن أوروبا تمتلك أوراقاً وإمكانيات تخولها أن تتخذ لنفسها اتجاهاً سياسياً خارجياً خاص بها والتغريد بعيداً عن الولايات المتحدة، حيث تملك أوروبا وخاصة ألمانيا وفرنسا اقتصادات قوية، وهي لا تلجاً للتصنيع الرخيص والبخس، كما يتمتع الأوروبيون بعلاقات مع كل الأقطاب الصاعدة من الهند إلى الصين إلى البرازيل وأمريكا اللاتينية.
ويبدو أن مقولة يمكن لأوروبا التحرك فقط عندما تكون أمريكا بظهرها، قد بدأت تتهاوى لأن أوروبا قد بدأت تشعر بأن الهيمنة الأمريكية على قراراتها السياسية تضر بمصالحها، لذلك تسعى إلى اتخاذ سلوك أوروبي منفرد عن السلوك الأمريكي.. فهل تنجح؟
عن «غلوبال ريسيرش»