بقي الكَرَم زمناً مديداً يحتلّ رأس الفضائل عند العرب، وبقي أيضاً قيمة تحلّي المرء لدى مختلف الشعوب, لكن عصرنا نحّى مزيّة الكرم إلى مراتب متدنّية تقارب العدم، وزاد على ذلك بجعل فكرة الكرم فكرة مستهجنة تثير السخرية، في سياق التنافس الرأسمالي الذي يجعل قيمة المرء مستمدّة أساساً من قيمة ما يملكه من مال، ووسائل مادّية ونفوذ؛ بحيث يبدو الكرم، في ظلّ هذا الوضع التنافسي، هدراً للوقت والمال لا مسوّغ له، إلاّ إذا كان البذل، والإنفاق الملتبس بفكرة الكرم موظّفاً في سياق الكسب المالي، واستمالة الآخرين الذين يساعدون الباذل المتظاهر بالكرم على المزيد من تحقيق المكاسب المالية, على غرار ما يحدث في سياق الرشاوى «الدسمة» التي تستهدف كسب أضعاف المبذول منها, لكن المؤسف أنّ عصرنا الراهن يسمّي الرُشا «إكراميّة», ويسمّي مانح الرشا «الدسمة» كريماً، فيندرج فعل الإذلال الماثل في أي واقعة ارتشاء في سياق الكرم والإكرام، لأن منح أيّ رشوة لا يمكن أن يكون إلا إذلالاً مباشراً صريحاً لمتلقّي الرشاوى، مهما علا شأنه في التراتبية الاجتماعية والمسؤولية الحكومية على حدّ سواء.
كان المتنبّي سبّاقاً في سعيه إلى تنقية فعل الكَرَم من التباسه بمشابهاته من أفعال المنح والعطاء والوهب وغيرها، فحذّر من ذلك في آخر قصيدة سبقت اغتياله عندما قال: «ومَن سيظنّ نثر الحَبّ جوداً/ وينصب فوق ما نثر الشباكا» معرّضاً بمختلف الذين يجعلون أفعال المنح والوهب سبيلاً للكسب والربح, وهو ما يقودنا إلى مناقشة «لغز الهِبة» للفيلسوف الفرنسي المعاصر «موريس غودولييه» الذي يناقش بعض أفعال الوهب لدى الشعوب التي يطلق عليها الغرب تسمية الشعوب البدائية كالسكان الأصليين في أمريكا وجزر المحيط الهادي في إطار (الأنتربولوجيا), والهِبة تبدو ملتبسة بالكرم ولصيقة به, غير أنها ليست كذلك بحسب التحليل المستفيض الماثل في الكتاب المذكور الذي يفرّق بين شكلين أساسيين من أشكال الوهب، يتمثّل الأوّل في الهبة التي ينتظر مانحها هِبة مقابلة قد تكون هي ذاتها في أمثلة عيانية عديدة، يرى باحث آخر (موس) في مؤلّف آخر عنوانه «بحث في الهبة» أنّ للهبة روحاً تجعلها ترجع إلى مالكها الأصلي الأوّل, والشكل الثاني هو الهِبة التنافسية التي تدفع بعض المتنفّذين المتنافسين على النفوذ بأشكاله كلها، إلى تقديم هبات يعجز عن ردها الطرف الموهوب فتكون الهبة في هذه الحالة وسيلة لإذلال الموهوب وإظهاره بمظهر الذليل العاجز عن رد الهبة بمثلها أو بأحسن منها.