تتبّعت العرب الحالاتِ الشعوريّة تتبُّعاً دقيقاً، تتبُّعَها للماء سائلاً ومتجمِّداً وغائماً وهاطلاً ومغيثاً ومدمّراً، فقالت إنّ في حزن الموت، ندباً وتأبيناً وعزاءً، وهي درجات تتصاعد أو تنحدر برغم ترابطها العاطفي، كأنها النار تشبُّ وتعلو ثم تتسع حاضنةً ذؤاباتها لتبدأ بالهدوء والانطفاء فوق جمرها.
كذلك كان العويل يوم أُغلقت مكتبة في وسط دمشق، وافتُتحت مجالس العزاء، التي اشترك فيها ندّابون ونوّاحون مرّوا بالجنازة أو مرّت بهم، فأنهضوا عندي ذكريات مكتبةٍ كانت مجاورة للراحلة، ومنها غذّيتُ مكتبتي المنزلية بروائع الكتب، لأن المكتبات هي منازل، قد تكون عامرة، دافئة، آمنة، حاضنة، وقد تكون متجراً أو دكاناً يبيع ورقاً، وما كانت اللغة مقصّرة في وصف بيوت الكتب: مكتبة عامة، مكتبة خاصة، مكتبة مطالعة، مكتبة بيع كتب، مكتبة قرطاسية، وبينها تتلاشى الحدود، لأن الكتب ترحل من رفوف إلى رفوف، أما ثمنها فيبقى افتراضيّاً، لأن قيمة الكتاب لا تُقدّر بثمن! ومن تلك المكتبة، الجارة، أتذكر أسعار الكتب الزهيدة، ووقفتي أمام واجهة الراحلة وأسعارها الباهظة، ولعلي اشتريت منها رواية واحدة ولم أعد إليها إلا لإلقاء نظرة على العناوين، وبعدها انتقل حجّي إلى مكتبة قريبة من عديد فنادق وعشرات المكاتب الخدمية: شركة الطيران السورية، الهاتف الآلي، البريد المركزي، وكانت تشبه البيوت العريقة بممراتها وقبوها الفسيح الذي يُضاء بالمصابيح حين يُلمّ بها زائرٌ يسأل عن قصص أطفال، ولم أتوقف عن شعائر الحج إلا حين قال لي صاحبها إن الرفوف خلَت ولن تُشغَل إلى ما شاء الله لأن المستودعات قائمة في مناطق الإرهابيين وبات من المستحيل استجرارها! وكان حزني أعظم على مكتبات الرصيف، التي عثرت بينها على لآلئ نادرة، ليس بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي المحسوس، لأنها اختفت هي الأخرى في ليلة غاب عنها القمر!
كانت الحرب الإجرامية على البلد حداً فاصلاً بيننا وبين الكائن العزيز المسمى كتاباً، مثله مثلُ الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران والبيوت والحدائق والأمكنة الأليفة، ومن فقَدَ عزيزاً ذهب بكلّ روحه ووجدانه إلى من بقي من الأحياء ليشعر أنه ما زال على قيد الحياة، ومثل هذا، مكتبات حية ناجية لكنها مهجورة يأتيها الزائر بالمصادفة، ففي المكتبة التربوية القائمة في القصور، مثلاً، قالت لي سيدة مثقفة إنها ذُهلت من وجود المكتبة بجوارها وهي لا تعلم بها برغم مرور سنوات على تأسيسها بطريقةٍ تشبه بناء عمارة على طريقة «أبولودور» الدمشقي، وكنا جالستين في فنائها المشجّر، والموسيقا تصدح من آلة العود، حيث افتتاح معرض فني لأشغال سيدات ريفيّات!
تعالوا إلى المكتبات المصرّة على الحياة! لا تنتظروا الجنازات التي تمرّ فتشاركوا في الندب ثم تصرخوا بالتّأبين فالعزاء!