بلاغة مُضادة
ملّت البلاغة نفسها، لكثرة ما تمّ استخدامها في القصائد على مدى مئات السنين بين علو وانخفاض في تطور القصيدة والإبداع الأدبي بشكلٍ عام، وكذلك خلال قفزات وسكون طويلين أصابا الثقافة العربية.. ملت تلك البلاغة من كثرة استخدامها حتى استنفدت آخر جمالياتها من تشبيه ومشبه به، ومن جناس وطباق وسجع.. بلاغة لم تعد تُضيف أي جديد لـ «الكريم» – على سبيل المثال – غير أن تشبهه بالبحر، والصبية الطويلة تُشبهها بالنخلة، وطول عنقها بعنق الزرافة، وجمال عينيها بجمال عيون الريم والغزلان وبقر الوحش، ووجهها بالقمر، وغير ذلك..
ملت القصيدة نفسها من تلك البلاغة التقليدية، ولم تمل المناهج التعليمية، سواء في المدارس أو الجامعات من تدريسها، وغالباً أصبحت غير صالحة الاستعمال، أو على الأقل انتهى مفعول صلاحيتها أمام البلاغة «المضادة» لتلك البلاغة الكلاسيكية التي كان لها دور ما، ذات حين من الصحارى العربية، التي كانت تفتقر للمفردات والعناصر ابتداء من البيئة وصولاً إلى اللغة…
اليوم تكمن جماليّة الشعر والإبداع الأدبي بشكلٍ عام في البلاغةٌ المضادة، غير الاستعارة والتشبيه، الحكاية الخرافية والمجاز والتقليد والمحاكاة والجناس.. بلاغة ضدّية – وعلى ما يصفها رضوان قضماني – أنها تقوم على وحدة المتناقضات، وصراع الأضداد معاً، لأنها بلاغة جدلية.. بلاغة مادتها المألوف واليومي، تقوم على رشاقة الشكل والمحتوى معاً في بلاغة التآلف والتنافر بين دال ومدلول، دال يعبّر عن مدلول يُخفي مدلولاً آخر متناقضاً معه، وتخرج من المعنى.
إنها بلاغة يخفي حكمتها وتتظاهر بالسذاجة.. لا بالسخرية.. لأنها حكمة تنطوي على ضديات الأشياء والمفهومات.. حارّة مفاجئة طازجة تقوم على المغايرة لا على التجريح، ولا تحمل معنى الإساءة، فهي بلاغة مراوغة توازن بين الجد والهزل، بين التصور والمألوف خلف عدد لامتناهٍ من التأويلات المختلفة، والتأملات الفلسفية والجمالية المتفاعلة، وهي بلاغة حدد «شليغل» ماهيتها بأنها إدراك لحقيقة، مفادها أنّ العالم في جوهره ينطوي على تناقض، وأن الوعي الضدّي هو الذي يستطيع الإمساك بكليته المتنافرة، فهو وعي جلي بالفوضى الكاملة اللامحدودة، ووعي عالٍ بالذات على الرغم من كلّ محاولات الاستخفاف بهذه الذات.