طلاب «ابن خلدون 1971» نموذج للأصالة والمحبة والتفاني والتعاضد
بعفوية طلاب ابن خلدون دفعة عام ١٩٧١ بدأت لمتهم وجمعتهم بعد سنوات عديدة من الفراق، محتفلين بالعيد الذهبي لهم في احتفالية أقيمت بمشاركة الرعيل الذي مضت به السنون وفرّقته، لكنه أبى إلا أن يجتمع على المحبة والألفة، فشكلوا صندوقاً للتكافل بينهم للمساعدة في الملمات والطوارئ في الزمن الصعب الذي نعيشه، كما كانت لهم مبادرات كثيرة على الصعيد الإنساني.
احتفالهم بالعيد الذهبي لتعارفهم، وتكريمهم لمدير ثانويتهم الراحل الفاضل المربي الأستاذ تيسير الرفاعي يعكس مدى تقديرهم ومحبتهم لمن كانوا رسلاً لهم في ميدان العلم والمعرفة.
ستون ونيّفاً من المشاركين في «اليوبيل» الذهبي، منهم الطبيب والمهندس والمحامي ورجال الأعمال والمغترب جمعتهم قواسم مشتركة في البيئة والخلق والدأب والنجاح تعاضدوا وتشاركوا في العمل لمساندة الآخرين، وتقديم العون لأبناء الوطن في مجالات عدة.
الاحتفالية شهدت تكريماً للراحلين، وعرضَ فيديو لمن لم يستطع القدوم لعديد منهم موزعين بأصقاع الدنيا، وكان لافتاً أن من تحدثوا بالفيديو يتحرقون شوقاً لبلدهم ولأصحابهم.
مبادرة تستحق التقدير لمن سعى، ونادى وحرص على استمرارها وديمومتها، فمبارك لطلاب ابن خلدون دفعة عام 1971 ذلك.
ماهر الرفاعي أحد أبناء الراحل تيسير الرفاعي قال عن التكريم لوالده:
للمرة السادسة يتم تكريم والدي مديراً لمدرسة ابن خلدون التي عمل بها مدة ثلاثين عاماً، وكان من بين صفوفها ما بين الخمسين والمئة طبيب يسجلون في كليات الطب كل عام، وتالياً تخرج فيها أكبر نسبة طلبة درسوا الطب يتواجدون الآن في أمريكا، ويمكن مقارنة هذه المدرسة بالمدارس الخاصة الآن التي تأخذ مجموعاً عالياً ليحصل طلبتها على مراتب عليا في الشهادات الثانوية.
أضاف ابن المربي الراحل: كان التكريم كما جرت العادة منذ سنوات بالنسبة للعائلة أمراً في غاية الأهمية، وكانت والدتي تريد الذهاب لحفل التكريم لتشاهد أولادها وأحفادها، وماذا فعل والدي خلال نصف قرن من الزمن، وجاءت الاحتفالية لفتة جميلة من القائمين عليها 1971 ، وأعتقد أن خبرة خمسين سنة من العمل، ومعركة الحياة تجعلهم أشخاصاً ناجحين، فالوالد عمل مديراً للمدرسة من عام 1966 وحتى 1996 وخلال عمله درس في الثانوية أكثر من ثلاثين ألف طالب، منهم آلاف الدكاترة والمهندسين والاختصاصات الأخرى.
ونتوجه من خلال منبركم بالتحية والتقدير لما قام به أبناء المدرسة من تكريم لوالدي، ونشكر القيّمين على المبادرة.
بدوره المهندس جواد الحموي من الطلبة الذين حرصوا على الدوام أن يكون مع أصدقائه في كل مناسبة قال: أنا أحد أفراد هذا العقد اللؤلئي الفريد، وانطلقت في معترك الحياة حاملاً شهادة الهندسة المدنية من جامعة دمشق، وعملت في مؤسسات الدولة، وكانت لي مشاركات في مشاريع الشركة العامة للبناء، ومن بينها بناء جريدة البعث في المزة، ثم انطلقت لتكون لي أعمال صناعية من بينها معمل لإنتاج الخرسانة مسبقة الصنع والإجهاد، و معمل لإنتاج غاز ثاني أوكسيد الكربون في ريف دمشق، في منطقة تل كردي الصناعية.
وأضاف؛ أكرمني رب العالمين بالتواجد مع هذه النخبة من الأصدقاء، وقد أبخسهم حقهم بتسميتهم أصدقاء، فهم أخوة بكل ما في الكلمة من معنى، هم أخوة من أرحام متعددة، وأخوة في التضامن والتكافل والتعاضد، لتحقيق الفرح والمساندة في مصائب الحياة.
فتحية فخر واعتزاز بهم جميعاً، وتحية لهذه القلوب العطرة القادرة على العطاء في كل الأوقات في الأفراح والأتراح، وللأيادي البيضاء التي لم تدخر قرشاً لمساندة ليس فقط إخوتهم في هذه المجموعة، بل لأبناء بلدهم التي يحبونها وتعيش في أفئدتهم.
أما د. ربحي السعدي – اختصاصي أمراض كلية منذ عام ١٩٨٦ ومؤسس مراكز الكلية الصناعية في كل ريف دمشق، وطبيب مشرف في مشفى الكلية سابقاً، وعضو في اللجان الفنية ومناقصات أجهزة ومواد الكلية الصناعية في وزارة الصحة سابقاً يتذكر الأيام التي عاشوها كطلبة في ثانوية ابن خلدون عام ١٩٧١ بحلّوها ومرّها وشغبها وجِدّها، والأخوة والصداقة بكل معانيها وأشكالها، وما أحلاها من أيام، وحين حصلنا على الشهادة الثانوية في عام ١٩٧٤ تفرقنا في أصقاع الأرض جميعاً، كلّ في دراسته واختصاصه وعمله، وفي زماننا لم يكن هناك موبايلات وانترنت فتقطعت بنا السبل للقاء مجدداً إلا القليل، فمضت السنوات وكان هناك اشتياق وحنين إلى الماضي الجميل ماضي الدراسة والأصدقاء والأحباب، ومنذ عشرين عاماً لمعت الفكرة وأوقدت في عقل وقلب بعض الأصدقاء :
لماذا لا نعيد أمجادنا وصداقاتنا، لماذا لا نحاول لمّ الشمل من جديد، وإن كنا متباعدين في المكان؟
وتشكلت النواة من عدد من الأصدقاء ممن تم التواصل معهم، وأخذت هذه النواة تكبر وتجذب وتشد الأحباب واحداً تلو الآخر، إلى أن استطعنا تأسيس مجموعة ابن خلدون ٧٣-٧٤ التي أصبحت تضم العشرات من رفاق الأمس فنجتمع ونتعاون، نتذكر ونبارك ونحتفل، ونمد أيدينا للخير لبعضنا ولغيرنا أيضاً، ومهما تشكلت صداقات جديدة لن تعادل صداقة مقاعد الدراسة، وأتمنى كل التوفيق والنجاح لهذه المجموعة الرائعة، وأن يديم المحبة والإخوة والصداقة، وأدعو الآخرين من أبناء الوطن الغالي أن يحذوا مثلنا.
المهندس يوسف بحصاص الذي قام بالإشراف الكامل على تنفيذ مشروع سقف نبع الفيجة عام 1986 بعد أن تم هدم السقف القديم المبني في عشرينيات القرن الماضي وبناء السقف الحالي ألقى كلمة رفاق الأمس في الاحتفالية بالعيد الذهبي لمجموعة الطلبة مؤكداً أهمية الآمال التي عقدت عليهم، فلم يدر أي منهم ماذا سيكون بعد نصف قرن من الزمن، مضيفاً بل لم نكن ندري ما ستؤول إليه صداقاتنا الفتيّة التي جُبلت بالمحبة والوفاء ونُسجت بالعلم والثقافة، فتفرقنا وكل منّا ينشد ما يبتغيه فنجحنا تارة، وأخفقنا تارة أخرى، لكن الأصالة بقيت ملازمة لذواتنا، وبقيت القيم التي كانت مبعثَ فخر لجيلنا تنضج كلما أُضيفت سنون إلى أعمارنا.
عقود مرّت اكتسبنا خلالها المهنة والمعرفة والخبرة وكوّنا أسراً كريمة، لكن الحنين إلى زمن الصداقة النقية ظلّ يعتمل في نفوسنا. فتنادى بعض الأصدقاء الأوفياء إلى لمّ شمل درر عقد ابن خلدون مرّة ثانية ليتبلور معنى الصداقة بتجارب السنين التي أفضت بنا إلى هذا الجمع الكريم.
وهكذا التقينا ثانية وقد ابيضت الرؤوس وانحنت المتون وزاد نقاء النفوس وصفاء القلوب فكانت فرحة اللقاء أكبر من صوت الضحكات، وغطت أحاديث الذكريات على جبال الكوليسترول والعمر, وهكذا تم صوغ عمر جديد بوجود أصدقاء الشباب الذين كانوا البلسم وقت الشدّة , والدفء وقت البرودة.
وقد تهيأ لنا نخبة من الأساتذة الكبار الذين أفنوا أعمارهم في تقديم التربية قبل العلم والقيم قبل الثقافة، فنهلنا منهم ما قدموه بطواعية مجبولة بالمحبة والصدق، فكانوا خير من أعطى وخير من قدّم من دون كلل أو ملل، وقد رحل جلّهم إلى دار البقاء رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته وأطال بعمر من بقي منهم.
وكما تناثُر النجوم في سماء الليل تناثرَ بعض أفراد مجموعتنا على تخوم الأرض في أمريكا وأوروبا وآسيا ليشاركوا بتفانيهم الإنساني في بناء الحضارة البشرية من دون أن يُغفلوا القيام بواجبهم تجاه بلدهم وأهلها.
ساهمت مجموعتنا « مجموعة ابن خلدون » على الرغم من تواضع عديدها وإمكاناتها في عدة نشاطات إنسانية، وكان للإخوة المغتربين الدور الأكبر فيها بما قدموه من دعم مادي لتلك النشاطات، التي كان لها الأثر الأكبر في التخفيف عن المحتاجين من أهلنا في دمشق.
ولم تخلُ سنوات ما بعد لمّ الشمل من أحزان أرخت بظلالها على مجموعتنا ففقدنا خلالها أحبّة رحلوا بأجسادهم إلى دار البقاء، وأخذوا معهم أجزاء من ذكرياتنا وذواتنا، لكن ذكراهم بقيت ماثلة أمامنا في كل مكان جمعنا معهم بدءاً من مقاعد الدراسة وحتى يوم رحيلهم، رحمهم الله وجعلهم من أهل الجنة.