عندما بدأت تعلّم العزف على العود في الأيام الخوالي كان ذلك إلى جوار غنمات جدتي أم خليفة رحمها الله، وكانت تلك المخلوقات اللطيفة تهزّ آذانها وتثغو، وكنت أعتقد أنني – بنغمات النشاز التي أتحالى بها فتىً مراهقاً – أُفرحُها وأدللها مثلما يفعل الهولنديون مع بقراتهم فيُسمِعونها كونشيرتات موتزارت السماويّة وسوناتا «ضوء القمر» لبيتهوفن ورباعيات باخ… ليجعلوها «تدرُّ حليباً شهياً طازجاً».. ( نعم والله “طازجاً”…هكذا لقّنونا في إعلانات تلك الأيام).. وذلك من فكرتهم عن أثر الموسيقا على الكائنات الحية جميعها.
ثم اكتشفت لاحقاً «بصراحة كنت أعلم لكن بسيطة… مرّقوها لنا» أنّ تلك الغنمات المسكينات بغمغماتها وهيجانها وثغثغتها ما كانت إلا حيلتها الضعيفة لتعبّرَ لي عن ضجرها من «زحزقات» الأوتار المتهتكة وأضلاع العود المخلّعة.
اليوم ولحسن الحظ، كلما عزفتُ على عودي في هدأة الليل يبدأ “كنارُ” جيراننا بـ«الدرغلة والشقرقة والرفرفة» كما لو أنه وجد أخيراً رفيقاً يفهمه ويناجيه ويؤنس ضجر الوقت الثقيل في قفصه، بل وأكثر من ذلك، إذ يبدأ أطفال جارتنا بالطرطقة على الطناجر والدقّ على الأبواب والنوافذ والصفير والغناء بأصواتٍ مثل طحن الحصى وبأعلى طبقة تكاد تثقب غشاء الليل الشفّاف كما لو أنني أعطيتهم شارة البدء بالمعركة.
وكلما استمررت في تنويع المعزوفات؛ هاجوا وماجوا أكثرَ، ثم يضعون «فلاشتهم» ( أيوااا فلاشة الجيران ما غيرها تلك التي حدثتكم عنها في قوسٍ سابق) تلك التي تُلعلِع بأغاني «الزيق ميق» وتفرقع بطبول «الدبيك», وتجعل جدران البناية وموجودات بيتي تبدأ حفلة رقص مجنونة، فيما أمّهم تزعق لتوقفهم، أما عصفور الكناري فيستمر كأنه يعوّض حرمانَ دهر.
وهكذا نصبح كلنا كما لو أننا في “عصفورية حلوة” وكلُ واحد فينا يعيشُ عمره الفاني في لحظة متعةٍ خارقة تهتزّ على إيقاع جنونه الخاص من دون أن نصغي فعلاً إلى ما يغنّيه الآخر… ولا ينقصنا إلا مَن يتفرج ويضحك… أمانة عليكم تفضّلوا!.