أحاديث الانتظار
مكتب المختار مكتظٌّ بالمراجعين، لكلّ معاملة ثلاثة مشترِكين على الأقل: مؤجّر ومستأجرٌ مع مرافق! وكثير من الثبوتيّات وأكداسٌ من صور «الفوتوكوبي» وأسئلة لا تتغير: سند الملكية، الهوية الشخصية، فواتير مدفوعة… ووحده ذلك الفتى النحيل القلق، يجلس متنحّياً بملابسه السوداء الموسومة بأصفر فاقع على الصدر، حروفاً لاتينية، لا ضرورة لقراءتها! رأسه منكّس تحت «كاسكيت» مقلوب وساقاه لا تكفّان عن الاهتزاز، إشارةِ القلق التي تخفف عن الرأس ضغوطه! كان ينتظر أن يفرغ المكتب من المراجِعين، ويفرغ المختار ومساعدُه الشاب لطلبه، لكنّ المختار خرج مع آخر المراجعين ليردّ على هاتفه الجوال، وبقينا نحن الثلاثة نعالج قضايانا «الإدارية». قال الفتى بتهذيب جمّ إنه يريد سند إقامة، يقدّمه للهجرة والجوازات ليحوز جوازاً يسافر به لإكمال دراسته في الخارج! وضع معاون المختار الشاب قلمه على المكتب ليبدأ حديثاً حميماً، لن يقطعه لتسجيل المعلومات المطلوبة على الورق: – يا أخي، أنت في التاسعة عشرة من عمرك، طالب معلوماتية متفوق، تقيم مع أمك الوحيدة، ولا بدّ أن هناك من زيّن لك الجنة خارج هذه البلاد، كما حصل معي تماماً، وكدتُ أفعلها وأنا أضيق ببيتنا نصفِ المهدّم، وأقف بانتظار نضوج إحدى دفعات الخبز في الفرن الآلي الذي يقف على شبابيكه عشرات الزبائن، وأحاور أمي عن ضرورة التخلي عن حفظ المؤونة التي رمتها بعد أن خذلها البرّاد ولم يعد يحتفظ بشيء حتى حلول الشتاء! كنت أسعى لنسيان ثلاثين شهيداً من عائلتي الصغيرة والكبيرة، حتى أرسل لي رفيقي من هولندا رسالة، وهذا الرفيق كان مقرّباً إليّ أكثر من أخ، يعني لم نكن نعرف التكاذب فيما بيننا! قال إنه لا يشعر بقيمة الكهرباء ولا بالخبز المتوفّر ولا بالماء الذي لا ينقطع، حين يحلّ الليل ويحتاج لمن يقرع بابه يشاركه كأس شاي! وأيّ مذلة يشعر بها حين يطالعه رجل أمن أجنبي يسأله سؤالاً، أي سؤال، كأنه متهم وعليه أن يجيب على أسئلة محرجة، لم يعتد الإجابة عنها!
قال الفتى وهو يبدّل جلسته أكثر من مرة: – باعت أمي بيتها الذي ورثته من جدي لتدفع لي ثمن «الفيزا»! كان يحسم النقاش بينه وبين الموظّف الذي تحوّل إلى صديق ناصح مقرّب، وهذه ظاهرة، ربما لا تعرفها إلا مجتمعاتنا التي ترسم الحدود بطريقتها، هو الذي لم يعد لالتقاط قلمه بل قال: -الاغتراب ليس مالاً يمطر علينا، ولو حصل، هناك قبر الجد والأب الذي نزوره فتصفو نفوسنا بالسكينة وردّ الجميل! هناك أعزاء يرحلون من دون أن نودعهم! هناك الكرامة التي نقتاتها مثل الخبز…
طال الحديث في غرفة انتظار، ليست شبيهة بوطن، بل هي الوطن على اتساعه، وبشموليته، واللافت أن أهل هذا الحديث هم من جيل واحد تتجاذبه رياحُ ما بعد الحرب العاتية التي فرضت على البلاد!