على وقع أنباء تزايد هجرة الصناعيين إلى حلب.. كانت أسواق المدينة القديمة المرممة حديثاً تستعيد نشاطها التجاري بزخم أكبر، داعية تجارها لفتح أبواب محالهم بغية دبّ روح الحياة والإنتاج في مدينة تراثية تعرضت لأقسى الاعتداءات الإرهابية، لكن الوضع اليوم يبدو مختلفاً كلياً، وخاصة بعد افتتاح سوقي السقطية وخان الحرير الشهير وساحة الفستق مروراً بترميم سوق الأحمدية، ووصولاً لباب أنطاكية، الذي رمم تجاره محلاتهم بأنفسهم لكون الضرر ليس بكبير مقارنة بأسواق المدينة القديمة البالغة 37 سوقاً وليس انتهاء بسوق الخيش والحبال الذي وقعت الجهات المعنية بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية وشبكة الآغا خان اتفاقية لترميمه في النصف الثاني من العام القادم على أن تكون هناك مشاريع ترميم أخرى وذلك بناء على دراسات وجلسات حوار معمقة لاختيار المراد ترميمه.
تحسن تجاري وتفاؤل
«تشرين» جالت في عدد من أسواق مدينة حلب القديمة المرممة، وشاهدت بأم العين تحسن الحركة التجارية مقارنة بفترات سابقة، بالتزامن مع بدء عمليات الترميم في سوق الأحمدية الواقع بين سوق السقطية وسوق باب أنطاكية، هذا التقاطع التجاري الهام، الموصول مع سلسلة أسواق أخرى تحتاج إلى إعادة إعمار وترميم ليعود ضخ شرايين الحياة والتجارة في المدينة القديمة، فكلما أعيد ترميم سوق جديد قرب تحقيق الهدف المطلوب.
نجول في بعض أسواق مدينة حلب القديمة، التي عادت إليها الحركة التجارية نسبياً، وتكون البداية بسوق باب أنطاكية، الذي استرجع بعض حيويته وخاصة بعد الانتهاء من موسم المدارس والتوجه نحو الموسم الشتوي، فهو السوق الشعبي المعروف بأسعاره المقبولة لكون زواره من أهل الأرياف، وهنا يؤكد محمد نور جمرك تاجر أقمشة مفروشات أن الحركة التجارية تحسنت قياساً بالعام الفائت، مرجعاً ذلك إلى ترميم الأسواق المجاورة من سوق السقطية وخان الحرير وساحة الفستق، إضافة إلى فتح محال سوق (الجلوم) المجاور، والأهم تحسن حركة التنقل من الأرياف، فرواد هذا السوق من سكان الأرياف، لذا يأمل من أجل زيادة الحركة التجارية في هذا السوق العمل على حل مشكلة النقل من الأرياف إلى المدينة علماً أنه في سنوات ما قبل الحرب على سورية كان الزبائن يقصدونه من أرياف حماة وإدلب نظراً لأسعاره المعقولة، متفائلاً في تحسن الوضع التجاري في المدينة القديمة خلال الفترة القادمة وخاصة أن بعض مطالب التجار حلّت وأهمها الكهرباء، التي مددت للسوق ساعات العمل، رافضاً فكرة الهجرة وترك محاله بقوله: نحن هنا باقون في محلاتنا وخاصة أن الوضع سيتحسن حتماً في الفترة القادمة.
نتجه نحو سوق الجلوم، الذي يضم إضافة إلى المحلات التجارية ورشات لتصنيع الألبسة والأقمشة تزود بها بعض محلات سوق باب أنطاكية وغيره، مع الإشارة إلى أن الحركة تعد أقل لكونه موجوداً في حارة فرعية خلافاً لسوق باب أنطاكية مثلاً، وهو ما يشير إليه التاجر محمد عبود صاحب محل، الذي أرجع ضعف الحركة أيضاً إلى عدم وجود تسهيلات من قبل الحكومة لتشجيع التاجر والصناعي على العمل، فمن ورشته على ما يقول كان يصنع منتجات تورد إلى بعض المدن مع تصديرها إلى دول مجاورة، لكن نتيجة قرار منع استيراد أقمشة (السوزيت و الليكر) انخفض الإنتاج مع إن هذه الأقمشة لا تصنع حالياً في مصانع حلب التي كانت تنتجها سابقاً، مستغرباً وضع مثل هذه العراقيل مع إن هذه المنتجات كانت تنافس منتجات دول عديدة كالصين لكن منذ أكثر من شهر تقلص الإنتاج بسبب قرارات كهذه، من دون إنكاره في الوقت ذاته بوجود تحسن في بعض الخدمات كالكهرباء، وتطبق ساعات التغذية نفسها مع المناطق الصناعية تقريباً، لكن في المقابل يتوجب منح التسهيلات المطلوبة للتجار والصناعيين من أجل تشجيع الإنتاج وتنشيط الحركة التجارية.
نتابع جولتنا باتجاه سوق السقطية الذي بدأ يستعيد نشاطه وخاصة بعد فتح أغلبية المحلات أبوابها أمام الزبائن، وهنا يستوقفنا الحاج ياسين أبو دان الذي يعد أشهر وأقدم قصاب في مدينة حلب لكونه وارثاً مهنته أبّاً عن جد بوجهه البشوش وزيه الشعبي، ليؤكد أن الوضع تحسن عن الفترة الماضية بنسبة كبيرة تتجاوز 70%، مثنياً على جمال السوق وخاصة بعد إعادة ترميمه وإرجاعه إلى حلته التراثية اللافتة بعد تدمير طال معظم محاله، مؤكداً أنه سيظل محافظاً على محله في السوق ولا يفكر إطلاقاً في الانتقال إلى مكان آخر لكونه محلاً تراثياً وتاريخياً لا يمكن التفريط فيه.
نسير باتجاه سوق خان الحرير المرمم حديثاً بمحاله الستين التي تشعرك عند المرور بالقرب منها بالتفاؤل بإمكانية عودة المدينة القديمة إلى نشاطها المعهود وخاصة عند تذكر حالة الدمار التي أصابت محاله وكيف استرجع هذا السوق جماله وقيمته التراثية وحركته التجارية وإن كان بمستوى محدود برغم أن تجاره قد فتحوا أبواب محالهم للتأكيد على أهمية الحركة التجارية، لنشاهد البعض منهم قد جلس أمام محله إيذاناً في معاودة العمل، ليخبرنا التاجر عبد الغني آل طه صاحب محل في سوق خان الحرير المتقاطع مع ساحة الفستق أن الوضع التجاري تحسن في المدينة القديمة نسبياً لكن باعتبار أن ماكينة الترميم لا تزال شغالة في سوق الأحمدية مع التحضير لترميم سوق الحبال المتقاطع أيضاً مع سوق خان الحرير، تبقى الحركة التجارية محدودة لحين الانتهاء من إنجاز عمليات الترميم وخاصة أن أسواق المدينة القديمة مترابطة مع بعضها، مطالباً بمنح الاهتمام الأكبر لمدينة حلب القديمة لكونها قلب العاصمة الاقتصادية، التي تحتاج إلى الكثير من الدعم والرعاية الكافية، فحلب (إذا اشتغلت، اشتغلت سورية كلها)، لذا من الضروري أن تعود حلب إلى عزها السابق.
أسواق جديدة
ساحة الفستق أيضاً انضمت إلى الأسواق المرممة وفتحت محالها أبوابها أمام الزوار، وهنا نسأل د.علي اسماعيل عن إنجاز سقف الساحة لكون فصل الشتاء على الأبواب وعدم إنجاز السقف قد يؤثر في فتح أبواب محال هذه الساحة الشهيرة كما يخطط مع تضرر الحركة التجارية في الأسواق المرممة المجاورة، ليجيب بتفاؤل العارف أن سقف ساحة الفستق كان مصنوعاً سابقاً من البيتون، وهذا لا ينسجم مع الطابع التراثي والتاريخي لمدينة حلب القديمة، لذا استفاد الفريق المكلف بإنجاز ترميم أسواق المدينة القديمة بعد إجراء عملية تقييم شاملة من الفرصة المتاحة حالياً لإزالة التشوهات الحاصلة سابقاً، وبناء عليه أعدت الدراسات مع رصد الميزانية اللازمة لاستبدال السقف البيتوني بسقف خشبي يتناسب مع خصوصية المدينة القديمة، وقد بدئ في صنع السقف الخشبي وسيكون جاهزاً خلال فترة قصيرة.
وعن خطط المستقبلية لترميم أسواق جديدة بعد الانتهاء من سوق الأحمدية يبين د.إسماعيل أنه تم توقيع اتفاقية لترميم سوق الحبال الواقع قرب سوق خان الحرير وعلى مقربة من سوق السقطية ليباشر في عمليات الترميم في نهاية النصف الثاني من العام القادم.
مسؤولية جماعية
حجم الدمار الكبير الذي طال مدينة حلب وأسواقها فرض بطبيعة الحال صعوبات عديدة عند عمليات الترميم وخاصة في ظل واقع اقتصادي صعب، وهو ما يؤكده د.إسماعيل بقوله: برغم حالة الإنجاز والتعاون المثمر بين فريق العمل على نحو أنتج حالة استثنائية ساهمت في تغير الطريقة الروتينية في العمل بحيث أصبح الجميع يفكر خارج الصندوق، ولا سيما في ظل رغبة الجميع في إعادة المدينة القديمة في حلب إلى سابق عهدها، لكن حتماً هناك بعض الصعوبات التي اعترضت سير عمليات الترميم أبرزها أن ترميم كل سوق يعد حالة فردية في حد ذاتها وليست سهلة إطلاقاً نظراً لاختلاف كل سوق عن الآخر، ويضاف إلى ذلك الحالة الاقتصادية العامة التي أثرت في سرعة الإنجاز كنتيجة طبيعية لغلاء المواد الأولية وأجور العمال وغيرها، وهي حتماً تؤثر وتؤخر لكن يعمل دوماً على استكمال العمل واستمرار إنجاز المشاريع في التوقيت المطلوب مضيفاً: اليوم الظرف الاستثنائي يفرض عملاً استثنائياً، فالجميع متحمس ويضع كل جهده لإنجاز مشاريع الترميم وإعادة تنشيط الحركة التجارية في المدينة، بغية تشجيع الناس على العمل وإعادة فتح المحال التجارية، مشيراً إلى أن ترميم المدينة القديمة وإرجاعها إلى سابق عهدها مسؤولية جماعية تقع على عاتق كل شخص مهتم وله باع في هذه المدينة القديمة التراثية.
حالة خاصة
ترميم عدد من أسواق المدينة القديمة في حلب خلال فترة قصيرة بعد دمار كبير جراء الإرهاب يدمي القلب وخاصة عند رؤيته بأم العين، يعد إنجازاً هاماً يحسب للجهات المعنية من محافظة حلب والأمانة السورية للتنمية ومنظمة الآغا خان، حيث ساهم ذلك في إعادة الحياة ولو جزئياً للمدينة القديمة التي تحمل أهمية خاصة ليس لحلب فقط وإنما للعالم بأسره، علماً أن مشروع ترميم المدينة القديمة مستمر ولن يتوقف، ومن الممكن بعد الانتهاء من مشروع ترميم سوق الأحمدية وسوق الحبال الانتقال إلى مشروع ترميم آخر، وهذا يقرره فريق العمل المعني بناء على دراسات دقيقة وجلسات حوار معمقة، علماً أن أهمية الانتهاء من مشاريع ترميم الأسواق في المدينة القديمة حسب الاتفاقيات الموقعة لا تقتصر على النجاح في إعادة تأهيل وإعمار هذه الأسواق التاريخية في التوقيت المعلن، وإنما تمتد لخلق حالة جديدة تتمثل في تغير طريقة التفكير بالدرجة الأولى على نحو ساهم في تشجيع كل شخص مهتم بالمدينة القديمة بالانخراط والمساهمة في عملية الترميم كلٌّ بطريقته وحسب استطاعته، بمن فيهم التجار الذين بادر عدد كبير منهم إلى إعادة ترميم محالهم على نفقته الخاصة على أمل عودة المدينة القديمة إلى نشاطها التجاري والاجتماعي خلال فترة قريبة.
وللحديث عن عمليات ترميم أسواق حلب القديمة التقينا د.علي إسماعيل المدير التنفيذي لشبكة الآغا خان للثقافة في سورية، الذي أكد أن إنجاز مشاريع ترميم أسواق المدينة القديمة يتم بناء على دراسات دقيقة مع عقد جلسات حوار معمقة مع الشركاء الآخرين ضمن فريق العمل المختص، ففي البداية اختير سوق السقطية لاعتبارات عديدة أبرزها أهميته بالنسبة للمواطنين واحتياجاتهم، لكونه سوقاً مختصاً بالسلع الغذائية تحديداً، وتوسطه المدينة القديمة، وعدم ضرره الكبير بحيث يكون إنجازه أسرع على نحو يبعث رسائل هامة بأن الحركة التجارية عادت إلى المدينة بطريقة تشجع التجار على فتح محالهم وترميمها ومعاودة العمل التجاري، والأمر ذاته ينطبق على سوق خان الحرير وساحة الفستق، وكذلك سوق الأحمدية، الذي سيكون إنجازه خلال النصف الأول من العام القادم، فالمهم ليس السرعة بالإنجاز بقدر الاهتمام بتفاصيل هذا المكان التاريخي وإنجازه بجودة وعمل متقنين، فسوق الأحمدية كغيره من أسواق حلب القديمة ليست أسواقاً عادية وإنما هي مواقع تراثية وإنسانية مدرجة على لائحة التراث العالمي، فهو لا يهم سكان حلب فقط وإنما العالم بأسره، الأمر الذي يفرض الالتزام بمعايير مهنية دقيقة تليق بعظمة المكان، ويضاف إلى ذلك أنه كغيره من الأسواق تعرض إلى دمارٍ كبير، لذا الأمر لا يخلو من مفاجآت لا تظهر عند المعاينة الميدانية وإجراء الدراسات الفنية المطلوبة، وهذا طبيعي بحكم التخريب الهائل الذي أصاب مدينة حلب القديمة وأسواقها.