جسدي حمَامُ المدينة.. جسَدُك سماء، وجهي ترابٌ.. روحُكِ ماء، يا أول المطر أنتِ..يا نديّة يا شهية يا آخرُ الأسماء، يا الوردةُ يا التفتّحُ يا اللهفةُ يا الضُمّةُ… يا الحبُّ… يا نقطةُ الباء.
لحظة…لحظة… أيعقلُ بعد كل ما انفجر فينا من شظايا الوقت وحطام التجارب أن أصبحَ بهذه الرومانسية المزخرفة وأغطسَ في محلول الغنائيّة السُكّريّ هذا؟ أيعقلُ أنني كلما نضجتُ وازددتُ معرفة؛ أصبحتُ “رقيقاً” زيادة عن اللزوم كأنّي أدخلُ في الهشاشة المطلقة!؟
لكني أستمرّ في معاندة الأقدار بأن أكونَ ما أنا كائنٌ عليه، وأتصلُ بصديقةٍ موسيقيّةٍ لأؤنسَ وِحشةَ الوحش بداخلي وأسألها: ماذا تفعلين في هذا الوقت الكالح؟ تجيبني حرفياً: “أفكُّ نوتةَ بيانو لشوبان”!
أضحكُ وأمازحها: انتبهي إذاً كي لا تنفرطَ النوتاتُ مثل حباتِ الرمّان كل واحدة في ديرة!.. ثم أقتبسُ صدى ليلِها وأضعُ مقطوعةً لموتزارت “أفكّها” أنا أيضاً: ها نغمةٌ للحب، وها نغمةٌ للحزن، وتلك للهرب مما يسميه محمود درويش “فخُّ الواقعيّ”، وآخرها رعشةٌ في القلب، فيما عقلي فَرَدَ جناحيه وحلّق بعيداً ووحيداً وسعيداً.
أتكونُ الموسيقا إذاً هي منقذتنا الوحيدة من هذا الذي يسمّيه الفلاسفة “جحيماً أرضيّاً”؟ أَ بوسعِ الترنيمة والدندنة والهدهدة أن تجعلَ قلوبَنا تبكي – مثل الأطفال – على كل ما فاتنا من ندىً ومدىً وشقاوات؟
أيعقلُ أننا ضيّعنا تحت ركام اليوميّ وضجرِ العاديّ كيفَ نغنّي ونرقصُ ونطلق للريح ضحكاتنا ونشتِلُ أرواحنا مثل الحبق ونعناعِ الأمهات؟
يبدو أننا كما قال الراحل ممدوح عدوان: “كبّرنا الطفلَ الذي فينا… ونحاولُ الآن استرجاعَه في نوستالجيا مستحيلة”… مستحيلة!