في قصة للأرجنتيني بورخيس أنّ أميراً أوروبيّاً دعا أميراً عربياً إلى بلاده، وأراد الأوروبي إدهاش ضيفه وإشعاره بأنّه أقلّ شأناً، فاقتاده إلى متاهة مبنية بالحجر والملاط، وتركه داخلها، مؤمّلاً أن يعجز العربي عن تلمّس طريق الخروج، لكن العربي, بعد استعانته بالتجريب، والاهتداء بالنجوم، استطاع الخروج والنجاة, وعندما حان وقت ردّ الزيارة دعا الأمير العربي ضيفه الأوروبيّ إلى داخل الصحراء، وتركه فيها قائلاً له: هي ذي متاهتنا، فهل تستطيع الخروج؟. لا يرمي الاختصار الآنف لقصة بورخيس إلى التنويه بالموقف الإنساني النبيل للكاتب، واحترامه العميق للإرث العربي في سياقه العريض، بل القصد ماثل في أن الصحراء هي المتاهة الأدهى التي طرحت تحدّياتها على البشر، قبل أن يطرح البحر، بوصفه متاهة, تحدّياته الخاصّة بالمبحرين القاصدين اكتشاف المجاهيل المائية، بعد أزمنة طويلة من التعاطي البشري مع الصحراء، والبوادي، وأشباه الصحارى، ومشتقاتها وامتداداتها المكانية المتنوّعة.
من المستبعد وجود كاتب تناول الصحراء، لم يأتِ على جوهر المتاهة التي تضمرها الصحراء, غير أن قليلين تناولوها بوصفها متاهة زمنية، متاهة يضيع فيها الزمن ويعجز عن ترك علاماته الدالّة في أرجائها المتمتّعة بشكل من أشكال الديمومة النسبية، والمتمتّعة بالقدرة على إبقاء المشهد البصري ساكناً عصيّاً على عوامل التغيّر مهما استبدّت به دورة الفصول؛ فكأّنها تزدرد الفصول بحسب تعبير أدونيس.
وفي الرواية العربية، لا تنفرد «سلطانات الرمل» لـ (لينا هويان الحسن) بتناول التيه الزمني الخاص بالصحراء، غير أنّها تبدو مصغية، بهذا المقدار أو ذاك، للنبض الصحراوي الذي ينشئه التيه الزمني، أكثر من التيه الذي يصنعه المكان، فالبدو أبناء الصحراء استطاعوا بالمراس العنيد ترويض الصحراء, والانتصار على جوهر المتاهة المكتنه في طبيعة كلّ صحراء؛ لكن الرواية تشير في أنساق مبعثرة كثيرة إلى أنّ أبناء الصحراء يعجزون، عبر كثير من التجلّيات والتمثّلات الواقعية المسرودة، عن ترويض الصحراء بوصفها متاهة زمنية، ويعجزون أيضاً عن معالجة الضياع الوجداني الذي ينشئه الضياع الزمني الحالّ في النفوس وفي طبيعة الشخصيات ذات المنشأ الصحراوي وسلوكها. مع الإشارة إلى أنّ لفظة «العجز» لم تأتِ بحرفيّتها، ولكن افتقار الأنساق النصّية الخاصّة بالتيه الزمني إلى ناظم عميق, أو ناظم سردي صريح، يشي بأن الرواية عجزت عن إيجاد ذلك الناظم المشار إليه، وربّما عجزت عن سرده بصورته التي تجعله ناظماً خفيّاً وعميقاً، قادراً على جعلنا نتلمّس أثر المتاهة, ببعديها المكاني والزماني, في أعماقنا المرهقة بأشدّ وأدهى مما يفعله التيه.