يصادفني الفجر، فأرتجل شارعاً، وأمضي..
في الغياب، سوف تتكاثف الذكريات تحت قدميكَ، وكأنها في حفلة عجولة لموسيقا “الروك” أو لبيوت عناكب هجرها صوت المنادى، ولا سبيل لنجاتها سوى أن تمقتها، أو تتركها لمصيرها من دون أن تكلف نفسك عناء رسمها بكلمات تتهجى اللعنة العاجزة عن القيام بأي فعل، سوى الصمت المطبق، والذي سوف يحيلك إلى متابعة المسير بعيداً عنها، إلى أن يأخذكَ الحضور إلى السؤال!!..
في الغياب، أيضاً، ومع كل خطوة، ستلتمس الأعذار من الفجر، لأنكَ لن تقوى على المتابعة، ولن تمتلك الجرأة للتوقف، ليس لأنكَ تكره المفارق كما كنتَ تدعي في سهرات الأنس السابقة، ولا لأنكَ تجاوزت المسافات التي كنتَ مُطالب بقطعها قبل أن تدمى أقدامكَ من الركض خلف طموحاتكَ النيئة، بل لأن الفجر زفّ من دون عرس إلى “مارسو” وبقيتَ وحيداً ..
– هل تقوى، على مذاكرة رواية “الغريب” للمرة الألف قبل أن تعود إلى البيت ؟!.
كتب “مارسو” عندما تلقى برقية تزف له خبر وفاة أمه: «.. ماتت أمي اليوم، وربما أمس، لا أدري، لقد تلقيت من الملجأ الذي كانت تقيم فيه برقية، هذا نصها: أمكم توفيت، الدفن غداً، خالص تعازينا.. لم أستطع أن أفهم من ذلك شيئاً!!.»
– ” ألبير كامو ” كان مثلكَ الآن، يحاول القبض على ذاته، فتمرد بطل الرواية عليه، وتركه يلهث خلف السؤال، إلى أن تم القبض على ” مارسو” بجرمه المشهود !!..
لم يرَ “مارسو” مما أرتكبه بحق المغدور أنه يُشكل جريمة، فقد وقف أمام القضاة، وسرد التفاصيل بكل دقة، من دون أن يرف له جفن، حتى إنه لم يبدِ أي ندم على ما اقترفته أصابعه وهي تضغط على زناد المسدس، لاحقاً سيصدر حكم الإعدام بحقه، بعد أن فشلت كلّ المحاولات التي كانت تهدف إلى إعادته إلى حيث إنسانيته التي فقدها إلى الأبد عندما ارتدته الغربة، وباتت تقدم نفسها من خلاله على شكل بشر يستيقظون مع الفجر ليغرسوا في صدره رصاصة أخيرة!!..
-هل يدرك الفجر ذلك !!..
مازلت معلقاً في زاوية ما مع شباكه، تبحث عن أسئلة، أو لنقل أنكَ مازلتَ تسير معه، تقطف من خديه الإجابات، ونقيضها، وتحاول نفي “كامو” إلى النقيض أيضاً، في النقيض سيكون لرائحة الخبز حكمها الأخير، وسوف تستجديكَ الدموع على من رحلوا، وتباعاً، سوف تتذكر رائحة أمكَ، وحضن حبيبتكَ البعيدة، وعلى باب البيت، سيناديكَ جارك العجوز لتتناول وإياه فنجان قهوته الوحيد، وعلى باب منزلكَ سوف تعترف للجدران التي تحكمه من الداخل، بأن مازال لكَ وطن !!..