أحاديثها

الجلسة التي ختمت النهار كانت للاسترخاء ليس إلا، والزّمن الذي باعد بينهما، جليسان لا ثالث معهما، كان أطول مما يتذكر! انقطعت الكهرباء في موعدها وبات الضوء شحيحاً ووهَنت الأصوات الوافدة من الخارج، لكنه كان يراها بحواسّه، متّكئةً على وسادة، تتنفّس برتابة ولابدّ أنها تسرّحُ البصر عبر النافذة المكسورة بأشعة شحيحة قادمة من الشّارع لأنها التقطت خيطاً من حنين وراحت تروي حكاية ذلك الرجل الذي يقبض فوائد من دائنيه وتراكمت لديه ثروةٌ من بيوتٍ ومواسم زيتون وزبيبٍ ودبسٍ، وقد مات ابنه البكر في حادثٍ استغلّه لاستقبال المعزّين، بينما رفضت أمّه أن تأكل لقمة واحدة من مائدته لأن مالَه مالٌ حرام!
غيّرت جلستها من دون أن تتغيّر نبرتُها حين صارت الحكاية عن ابنة عمّه التي لم يعد يعرف عنها غير الاسم منذ غادر من أجل دراسة الفلسفة ولم يعد: – حين سألت زوجها عن سبب غيابه الطويل بحيث لم تعد ابنته الجامعية تراه وابنه المراهق يحظى باهتمامه، قال لها ببساطة وفجاجة، إنه تزوج امرأة أرملة تربي ابنتين وهي التي أغنته عن نساء الأرض! وتابعت من دون أن يسألها، أنها صُدمت وسارعت إلى شرب مبيدٍ حشَريّ، حُملت بعده إلى المشفى، ولم تنهض من مصيبتها إلا بفقدان نصف وزنها، وتردّدِها من بيتٍ إلى بيتٍ لتحكي وتبكي! كان يصغي وهو يخرج من تساؤلاته الدائمة عن العنف البشري وذلك الحوار الشهير بين “فرويد” و”آينشتاين” هل يمكن أن تنتهي الحروب؟ لكنها انتقلت، لا يدري كيف، إلى جارتهم اللّصيقة ببيتهم، التي أغلقت التنّور بسبب غلاء الطحين وانقطاع الوقود، لكنها زوّجت ابنتها الصّغرى التي فاتها قطار الزواج، وقسراً دخل تفاصيل العرس: العريس من قرية أخرى ولم يأتِ معه إلا صهره وأخوه والضيافة كانت متواضعة لم تكْفِ المدعوّين، وبدت جميلة بعد تسريحة الشعر والثوب المشكشك!
اقتحمت الصمت القصير، أغنية عابرة من مضخّم صوتِ سيارة، وبعد أن مضت بعيداً، سمع صوتها مجدّداً لكنه مبلل بالدموع: أبو محمد أصرّ على زيارتنا في البيت رغم شلله النصفي، جاء متعكّزاً على كتف المسكينة أم محمد، وقضينا وقتاً حتى استطاع الجلوس في ظل شجرة الخوخ وسكب اللبن على ملابسه، الرجل الكريم المحب المضياف صار مخجلاً لعائلته ومحبيه، وليت المقام، به، طال! توفي بعد أيام وأنت سمعت بوفاته لكنك لم تُعزّ أبناءه!
حين اقترب الفجر وخلدت إلى النوم، كان يقيس الأزمنة التي باعدت بين لغتين، وكينونتين معرفيتين، ومنصّتين ثقافيتين تواجهان العالم، ويهدأ رويداً، رويداً، في وسَنٍ ورديّ، فتلك المحدّثة هي أمّه!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار