لا تقتصر دلالة الحداثة على مرحلة معينة معروفة في تاريخ الفن والأدب, وإنما تنفتح الدلالة باتّجاه جميع ما يمكن استحداثه بيد الإنسان في المجال الثقافي الذي نسعى إلى البقاء في أحيازه, حيث لا يجوز جعل «الحديث» نقيضاً مطلقاً للـ (قديم) لأن كلّ قديم كان في حينه حديثاً، حسبما أشار إلى ذلك (ابن قتيبة) في تراثنا القديم. وبعض ما يمكن إثارته في أيّامنا ضد (الحديث والحداثة) ماثل في منحى الانحطاط المريع الذي تهوي إليه أعمال كثيرة، رائجة وشائعة إلى حدّ يقارب حدّ الاشتمال، والمشكلة أنّ أصحاب هذه الأعمال يصرّون على إدراجها ضمن مفهوم الفن، كالمواد الموسيقية الغنائية، ومنحها صفة درامية قائمة مبتذلة في تصويرها وبثّها بوساطة التقنيات الحديثة «الفيديو كليب» ووسائل التواصل الاجتماعي.
هناك شكل من أشكال الاتضاع الماثل في معظم الإنتاجات الحديثة على مرّ العصور، حسبما ذهب إليه يوسف سامي اليوسف, وهو اتّضاع قائم بالضرورة المتأتّية عن قياسه إلى ما كان قبله من إنتاجات فنّية وأدبية غربلتها حركة التاريخ. وعلى ذلك, يبدو القديم بكلّه أفضل من الحديث بكّله أيضاً، والسبب يرجع إلى أنّ الموجود بين أيدي أبناء العصر من مادّة القديم لا يشكّل, من كلّية المادّة القديمة, إلا جزءها اليسير المنتمي إلى صفوة تلك المادة أو صفوة صفوتها؛ بسبب تعرّضها لعمليات مركّبة ومتداخلة، من الغربلة والانتقاء، والنقد الحادّ، والحذف والتحسين، وغير ذلك، عبر مئات السنين. فرُواة شعر جرير كانوا يسارعون إلى تناول القصيدة التي يلقيها الشاعر, لمعالجتها بالتحسين البلاغي، والضبط الموسيقي والنحوي، وإخضاع أبياتها إلى ترتيب مناسب، إلخ.. وما كان يحدث مع جرير كان معتمداً لدى بقية الشعراء في العصور السالفة واللاحقة. ربما، باستثناء المتنبّي الذي كان هو الناقد الأول والمحسّن الأول لقصائده التي كان يخطّها بنفسه ضمن ديوانه الذي لم يكن يفارقه إطلاقاً.
أسكت المتنبي في عصره أصوات ستمئة شاعر، لم يبلغنا من أسمائهم إلاّ النذر اليسير، والإهمال الذي بلغ حدّ الإلغاء لقسط كبير من الإنتاج الشعري القديم، سيكون ذاته مصير القسط الأعظم من الركام الشعري المعاص، وذلك جميعه لا يمكن أن ينهض في وجه حركة الحداثة التي تستمدّ قوّتها من قوّة تدّفق الزمن. وضرورة الحداثة لا تأتي فقط بفعل التغيّرات الواقعية التي يحدثها التطور، بل تأتي أساساً من أن القوالب الفنية القديمة تُصاب دوماً بالاهتراء وعوامل البلى, بسبب استهلاكها من كثرة الاستعمال، بحسب ما ذهب إليه الشكلانيون الروس.