لم تعد المقولة/النصيحة: “سافرْ…أنتَ لستَ شجرة” تنفعُ كاستعارةٍ شِعريةٍ على شكل نصيحة أو بوصفها مقارنةً وجوديةً بين كفّتي ميزان الحياة: البقاءُ والرحيل! ولا هي بالعبارة المضحكة التي يمكن أن نقولها لأطفالنا لنجعلهم يدركون باكراً مفارقاتٍ فلسفية فيها التماعةٌ فكريةٌ محبّبةٌ أو نكهةُ الّلعبِ اللغويّ الذي يتعلّمون عِبره كيف يُحلّقون بأحرف الأبجدية في فضاءات الخيال وبفضله!
“سافِرْ… أنتَ لستَ شجرة” لم تعد دقيقةً لأنه لو صحَّ لأشجارِ بلدنا أن تهاجرَ لهاجرتْ منذ زمن بعيد، هرباً من موتٍ يحيط بها مع كل نَفَسٍ من أنفاسها، مع كل غصنٍ وورقةٍ وبرعمٍ تُحاول به أن تدافع عن وجودها الكونيّ بل عن وجودنا البشريّ الذي لم تعد تعنيه الأشجار بوصفها “رئاتُ المدن وفسحة الروح” ولا حتى بما يمكن أن تشكّل كأيقونةٍ رمزيةٍ لقداسةٍ ما، ولا حتى بكونها استعارةً وارفةً في قصيدة شاعرٍ رومانسيٍّ أو شخصيّةً كرتونيةً في قصص الأطفال الخيالية حيث تتحدّثُ الأشجار مثلَ الأجدادِ الطّيبين أو تحتضنُ الشجراتُ أهلَها والعابرينَ والغرباء مثلما تفعل الجدّات الحنونات!
لو صحَّ لأشجار بلدنا أن ترحلَ من هذا الهجيرِ لهاجرتْ واقتلعتْ جذورَها بيديها كي لا تبقى بين فكّي “مافيات” العقارات الذين لا يتردّدون ولا لحظة عن تجريف و”تصحير” مئات الدونمات من أراضٍ مخصصة للقمح والشعير أو قطع واقتلاع عشرات الأشجار من زيتونٍ كنّا نفاخر بأنه مقدّسٌ مِنْ أوّلِ حبّة فيه حتى آخر نقطة زيت… وكلّ ذلك بشكلٍ شبه يومي، وفي المحافظات كلّها، و”ربما” على مرأى ومسمع من الوزارات المعنيّة ومجالس المدن والبلديات!
صرختُ مرّة وهأنا أردّدها بكل القهر اللازم: لا تكونوا شجراً يا أحبّة… لا تكونوا شجراً لأنكم ستوقدون فحماً للجشع أو ستيبسون دون ماءِ العقلِ والمحبّة والإخلاص!