أنزل ثلاث درجات تهوي مباشرة من حافة الرّصيف، فأصبح في “مشغل” خياطة، ليس أكثر من حجرة فيها سيدة غارقة، بكل ما تعني كلمة غرق، بأكوام من الأقمشة الملوّنة غير المرتّبة وحولها قصاصات انهالت من مقصٍّ، أزاحتها قدمان عاريتان مستقرتان على دعّاسة آلة خياطة تواصل دمدمةً رتيبة بين يدين حذرتين! رفعت السيدة عينيها وابتسمت مرحّبة بوجه مضيء ثم نهضت!
لم أدخل مثل هذا المكان منذ أكثر من ستة عقود! كان ذلك في طفولة بعيدة برفقة الأم، في أكثر من موعد عيد أو عرسٍ عائلي، تفتح “الأجيرة” باب البيت العربي الفسيح حيث تستقبلنا “المعلمة” من إيوانها في العمق وعنقها مطوّقٌ بالمازورة الزرقاء المرقّمة، وهي تعدُّنا متجهّمة من الكثرة، وكما تفعل إمبراطورة في استعراض رعاياها تأخذ القياسات وهي صامتة، بقربها “أجيرة” أخرى تسجّل الأرقام بعد متابعة اليدين تلفّان “المازورة” وتفلتانها، بينما نظري مأخوذٌ بمانيكان صلعاء عليها معطفٌ مخمليٌّ نبيذيٌّ مطرّز وآخر سترَتْه عباءةٌ زرقاء سابغة والمرايا المعتمة واجمة بسبب قلة المصابيح المضاءة! أستفيق على صوت “المعلّمة” وهي تُخرج الأقمشة من بقجتنا: -الأزرق لمن؟ -الزهري لمن؟ -المشجّر لمن؟ -المقلّم لمن؟ ويذهلني أنها لا تسجّل الأسماء على قطع القماش بل تخبر أمي دون نقاش، بموعدِ القياس المقبل! ولها كلمة لا تُردّ، هي المشهورة التي لا تُنافس في “تلبيس” نساء المدينة، مالكة عشرات كتالوجات الموضة المستوردة من بيروت! أما التعذيب الأعظم فكان التردد مراراً لقياس أوّل، وثانٍ، وثالث للتعديل…
تغير الزمن وأخذ معه كلّ هذه الطقوس يوم بدأ عصر الألبسة الجاهزة من دون أن نشعر بالانقلاب الذي شعر به الروائي الكبير “حنا مينه” بعد الحرير الهندي وموت صناعة حرير القزّ الذي جرّ وراءه مآسي الفقر والهجرة وموت بساتين التوت، وعلى هذا بنى أهم وأجمل رواياته، ولحظة سألتني ابتسامة السيدة ماذا أريد لم تكن تعلم قَطّ بالتداعيات التي تدفقت في ذاكرتي لأن وجود هذا المحل الصغير (غرفة قياسه مرآة رديئة وستارة لا تستر عن عيون عابري الشارع) كان يُفصح عن مهنٍ عادت من سباتها بعد الحرب علينا، بحكم الحاجة والضرورة! الحاجة للخروج من عصر الاستهلاك الذي يرمي القميص إذا اهترأت قبّتُه، والمعطف الذي تغيرت موضته، والثوب الذي بات طوله غير مناسب، والمريول المدرسي الذي لا يناسب الأخ الأصغر! قالت إنها أحبت الخياطة هوايةً ويوم ضاقت الدنيا بدخل زوجها، صارت تخيط لجيرانها في منزلها، ويوم صار المنزل بلا خصوصية، فكرت باستئجار هذا المحل، ويوم صعب عليها أن تعالج الأقمشة الشفافة سجّلت دورات في معهد متخصص لأنها يوماً، بعد يوم، اقتنعت بمهنة تسند أسرتها في هذه الأيام الصعبة!
أقول لها: – مهنة لكل زمان، وهنا كان النسيج والصباغة والإتقان ومغالبة المستحيل، منذ الأزل! تنقطع الكهرباء في موعدها فنواصل الحديث كصديقتين حميمتين عن الحرب ومفاعيلها!