في زيارتي الأولى إلى فرع سجن دمشق المركزي، وخلال طريق الذهاب أحسست بقبضة في قلبي وتسرع دقاته بشكل كبير، رافقه نوع من التوتر والقلق، لم أدرِ ما السبب، ولم أستطع تفسير ذلك، ربما لأني لم أعتد زيارة تلك الأماكن.
قبل أن أصل إلى هناك بدأت تدور في ذهني تساؤلات عديدة: كيف سيكون شكل السجن؟ هل هو فعلاً عبارة عن غرف مظلمة مليئة بالسجناء، أبوابها من حديد؟ عناصر الحراسة بأعداد كبيرة يطوقون المكان خوفاً من هرب السجناء، كيف هو شكل المجرمين، وماهي ملامحهم؟ هل سأسمع أصوات تعذيب النزلاء، هل سأراهم وأتحدث معهم خلف القضبان؟ هل.. وهل.. وهل؟
كل هذه الأشياء بدأت تتلاشى رويداً رويداً عندما وصلت المدخل الرئيسي للسجن، دخلنا بوابته الكبيرة لأرى السجن من الخارج جميلاً تزينه الورود والأشجار، وأيضاً الخضراوات، إضافة إلى حديقة رائعة تتوسطها (بحرة)، أحسست براحة نفسية واطمئنان.
في الداخل كان بانتظارنا مدير فرع سجن دمشق المركزي العميد مقبل الحمصي ورئيس قسم التوجيه والتأهيل العقيد أيهم إبراهيم حمدان اللذان أعطيا صورة إيجابية عن السجن ، قدما كل التسهيلات اللازمة أثناء جولتنا داخل السجن، منحانا كامل الحرية بالتحدث مع النزلاء على انفراد ومن دون أي توجيهات أو قيود، واختيار النزلاء الذين يرغبون في التحدث عن تجاربهم بالسجن لـ “تشرين” وكان قد اختفى نهائياً شعور الخوف والتوتر عندما بدأنا التجوال في كل جناح من أجنحة السجن، والمشاهدة عن كثب.
نشاطات السجن
قبل الجولة كان لـ” تشرين” لقاء مع مدير السجن العميد مقبل الحمصي الذي أعطى صورة مفصلة عن طبيعة النشاطات في السجن، حيث أشار إلى الاهتمام بالجانب المهني والتعليمي للنزلاء فهناك دورات لغة إنكليزية – الخط العربي – موسيقا – تعليم اللغة العربية – تجويد القرآن الكريم – إضافة إلى دورات محو الأمية.
بالتعاون مع وزارة الثقافة، هذه الدورات تتم على مدار السنة و ليست بحديثة لكن لم يكن هناك إضاءة عليها، مؤكداً أن أي شهادة يحصل عليها النزيل بأي دورة كانت لا يذكر فيها أنه نزيل أو إشارة إلى السجن كي لا تؤثر عليهم مستقبلاً، مسموح لكل النزلاء الالتحاق بالدورات من دون أي شروط و بغض النظر عن عقوبته أو وصفه الجرمي، وتعود فقط لرغبة النزيل في اتباع الدورات أم لا، بالإضافة إلى وجود مدرسة كاملة تشرف عليها مديرية تربية ريف دمشق وفيها مركز امتحاني كأي مركز خارجي في سورية، كذلك توجد قنوات بث رياضة وإذاعة خاصة بالسجن.
مركز نفاذ للجامعة الافتراضية
العميد الحمصي ذكر أن وزارة الداخلية وقعت مؤخراً اتفاقية مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تتضمن تأسيس مركز نفاذ للجامعة الافتراضية ضمن سجن دمشق المركزي، و أصبح في مراحله الأخيرة من التأسيس حيث سيتم إطلاقه بداية العام الدراسي، وقد تم عرض الإعلانات للقبول بالمركز، وهناك إقبال كبير للنزلاء، علماً أن المركز لا يقتصر على المرحلة الجامعية فقط وإنما دبلوم ودراسات عليا أيضاً، مؤكداً أن هذا المركز مثل أي مركز في سورية إضافة لوجود ميزات تخفيض نسبة الرسوم، كما أن المركز ليس محصوراً بالنزلاء فقط وإنما لكل الجهاز العامل داخل المؤسسة الذي يمكنه متابعة تحصيله العلمي، منوهاً أنّ مركز نفاذ الجامعة الافتراضية للنزلاء هو للذكور والإناث، علماً أن شروط التسجيل ذات الشروط الخارجية، مؤكداً أنه لا يذكر على شهادته الجامعية أنه نزيل سجن وإنما مثله مثل أي مركز، كما يستطيع النزيل متابعة تعليمه في أي مركز في سورية حتى بعد إخلاء سبيله و بالرسوم المخفضة نفسها.
وأضاف العميد الحمصي أن نسبة النجاح بشهادة التعليم الثانوي هذا العام كانت 85.5 %، وبعد الدورة التكميلية من المتوقع زيادة النسبة، علما أن المركز الإمتحاني يتبع لمديرية تربية ريف دمشق وليس لإدارة السجن حتى لا يعتقد أحد أن الشهادة يتم الحصول عليها ببساطة، وهذا يعطي حافزاً ومؤشراً أن هذا الإنسان غير سيئ ويمكن انخراطه بالمجتمع وإعادة تأهيله بحيث لا يشعر أنه مجرم.
وعن التعليم المهني للنزلاء يقول العميد الحمصي هناك مجموعة ورش كبيرة منها الميكانيك – الزراعة – الخياطة – الأحذية – ورشة الأرابيسك الكبيرة وورشة العمل بالخرز إضافة إلى ورشة النجارة – الحدادة، ومن خلال العمل بهذه الورشات يحققون ريعاً مادياً يحسن مستوى معيشتهم ويخففون عن أهلهم أعباء مادية .
إصلاح النزلاء
بدوره رئيس قسم التوجيه والتأهيل في السجن العقيد أيهم ابراهيم حمدان أوضح أن المهمة الأساسية هي إعادة تأهيل وإصلاح النزلاء خلال فترة العقوبة التي يقضيها في السجن وذلك من خلال التركيز على التعليم وله شقان الأول: التعليم المهني فخلال فترة وجود النزيل يتم تعليمه مصلحة أو مهنة يعمل فيها، بينما الشق الثاني هو الجانب العلمي الذي يبدأ من دورات محو الأمية ولها أكثر من مستوى يدرس فيها النزيل ويحصل على شهادة تؤهله بأن يدرس شهادة التعليم الأساسي ومن ثم الثانوي، الكادر التدريسي من ضمن النزلاء باستثناء موظف من مديرية التربية يداوم يومياً في السجن، إضافة إلى أنّ جمعية رعاية المساجين تقدم القرطاسية كاملة لهم، مضيفاً أيضا بوجود دورات لغة عربية – تجويد القرآن الكريم – موسيقا – لغة انكليزية – لغة روسية – مكتبة خاصة للمطالعة –صالات رياضة – دورات كمبيوتر ومدة كل دورة ثلاثة أو أربعة أشهر، ولاحقاً الجامعة الافتراضية وأيضاً دراسات عليا دبلوم وماجستير، كاشفًا أنّ مركز نفاذ للجامعة غير موجود بأغلب دول العالم، وسورية سباقة بهذا الموضوع.
حقوق السجناء مصونة بشكل كامل من طعام وشراب – مكتبة – مدرسة – التدفئة – الإنارة – الزيارات – الطبابة – الاتصالات – النظافة – المعقمات حتى لقاح “كورونا” القسم الأكبر منهم تم تلقيحه، إضافة إلى وجود مكتب خاص لتقديم طلبات النزلاء وهناك محامٍ يرافع عنهم مجاناً لمن لا يستطيع التكفل بالأتعاب، إضافة إلى وجود لجنة قضائية تزورهم باستمرار، كل تلك الأمور تسير بشكل منظم والقانون يطبق على الجميع، وكل من يلتزم بالتعليمات والقوانين لا يتعرض لأي تساؤلات أو عقوبات إطلاقاً حسبما قاله مدير التوجيه والتأهيل.
كل من التقتهم “تشرين” في سجن دمشق المركزي هم من مرتكبي جرائم القتل والتزوير وجرائم إرهاب لكن رغم ذلك من يتبادل الحديث معهم ينسى تماماً أنهم مجرمون.
لقد نجحت إدارة السجن بتغيير ملامح الإجرام عن طريق التركيز على العلم بشقيه المهني والتعليمي للنزلاء، فمجرد دخول النزيل باب السجن تنسى الإدارة تماماً موضوع الجرم ولا تسأل عنه أصلا لأن هذا ليس من اختصاصها إلا في الحالات الضرورية كما تقول الإدارة.
في كل ركن وزاوية من أجنحة السجن حكاية مع هذا النزيل أو ذاك، بالسجن الكثير من المتناقضات بين النزلاء، فالبعض دخل السجن بالكاد يستطيع فك الحرف وانتهى به المطاف بدراسة الحقوق، بينما البعض الآخر ضاع مستقبله فبعد أن كان من المتفوقين بجامعته أصبح الآن سجيناً وفقد الأمل بخروجه إلى العالم الخارجي.
من شبه أمي إلى حقوقي
لم يكن السجن هو الجانب المظلم من حياة النزيل مازن الخطيب الذي يروي قصته لـ” تشرين”، بأنه ارتكب جرم التزوير الذي كان يشعر أنه يشبه الفن أو الرسم عندما كان يريد إنجاز عمل ما، لكنه لم يكن يدرك أن عواقبها ستكون سجناً لمدة ثماني سنوات.
مازن دخل السجن بعمر 40 عاماً بالكاد يستطيع القراءة والكتابة، اتبع دورات محو أمية، وتقدم بعدها لشهادة التعليم الأساسي وحصل على 2850 علامة، وبعدها نجح في الثانوية الفرع الأدبي بمجموع 2300، وحسب علاماته كان بين خيارين الإعلام والحقوق فاختار الأخيرة حسب رغبته وحجز مقعداً له في جامعة دمشق، لكن أوقف التسجيل إلى حين خروجه من السجن و التي تنتهي مدة حكمه بعد خمسة أشهر فقط، بالإضافة إلى اتباعه دورة لغات انكليزي – روسي، يقول مبتسماً إنّ السجن هو المكان الذي ينتمي له ووجد نفسه فيه.
محكوم مؤبد
بينما قصة النزيل حسن المحمد مختلفة تمام، حسن شاب بعمر الورود 26 عاماً، محكوم إعدام وتم التخفيف إلى مؤبد، موجود في السجن من عام 2012 ، قبل دخوله السجن كان يعمل في مجال الإلكترونيات والكمبيوترات والجوالات كنوع من الهواية فقط وكان وقتها في الثالث الثانوي، في السجن اتبع دورة حاسوب مبتدئ متوسط وحصل المركز الأول ومن بعدها اتبع دورة لغة انكليزية مبتدئ متوسط وكثير من الدورات، وأتقن الرسم بطريقة حرفية، عمل في السجن مشرف استديو تصوير، علماً أنه حصل على شهادة التعليم الثانوي عام 2015 الفرع الأدبي، وحالياً يرغب في التسجيل بالجامعة الافتراضية، لكن يظهر على وجه حسن اليأس وفقدان الأمل ورغم كل ما يقوم به، يتابع كيف لي أن أكون متفائلاً وأعرف أني سأمضي بقية عمري في هذا المكان؟
فقد الأمل
لم يكن الطالب أيمن مرعي المتفوق في الهندسة الزراعية بجامعة دمشق وبمعدل 97.8%، بأحسن حال من غيره، أيمن بعمر 30 سنة خسر دراسته وحياته، فقد الأمل بكل شيء، أمضى حتى الآن ست سنوات في السجن، بين ممارسة الرياضة ودورات تعليمية حاسوب ولغة انكليزية – مشيراً أن في السجن دورات كثيرة إضافة إلى الكثير من الوظائف، عمل فترة في ورشة الزراعة لكونه من صلب دراسته سابقاً، لكنه حالياً يريد التفرغ للدراسة في الجامعة الافتراضية، منوهاً أنها بادرة جيدة من إدارة السجن ألا يكتب على الشهادة أنه نزيل سجن.
لا شيء يضاهي الحرية
بينما النزيل محمد فتحي المصري وعمره 23 سنة، نال الشهادة الثانوية الفرع الأدبي في السجن ويرغب بالتسجيل في الجامعة، مؤكداً أنه لا شيء يضاهي الحرية، لم يشأ التحدث عن جرمه وسبب دخوله السجن، لكن أشار إلى أن مرسوم العفو شمله فتقلص حكمه إلى خمس سنوات حسب قوله، يحسب محمد مدة وجوده في السجن بدقة، حيث قضى أربع سنوات و15 يوماً أي إنه سيخرج خلال أقل من سنة، استثمر محمد كل وقته في السجن حيث خضع لدورات انكليزي – موسيقا – وختم موضحاً بأن كل شي متوفر هنا طعام – وظائف- إضافة إلى المعاملة الجيدة مع النزلاء لمن يلتزم منهم ويحترم القانون.
أتقن مهنته داخل السجن
نبيل رزق سجن منذ ست سنوات وهو المسؤول عن ورشة الآرابيسك منذ ثلاث سنوات، يعمل بهذه الورشة أكثر من 12 نزيلاً، أتقن هذا العمل داخل السجن، دمج الموازييك مع الصدف والأرابيسك إضافة إلى النحاس والألمنيوم، يبدع ومن معه في الورشة بصناعة التحف – صناديق مجهورات – براويز- تلبيس آرا كيل – تصنيع طاولات زهر، علماً أنّه يصل سعر الواحدة منها 6 ملايين ليرة، وكذلك طاولات الضيافة سعرها 5- 6 ملايين ليرة حسب حجمها والمواد الداخلة في صناعتها وهي بناء على توصية وتباع لأشخاص خارج السجن.
يتكتم عن جرمه
محيو بكور مسجون منذ سنة وثمانية أشهر، يرفض محمد الحديث عن نوع جرمه، كل ما قاله إنه ما حدث كان خارج عن إرادته وأنه عند خروجه لن يعود إلى ذلك الطريق أبداً، و ينتقل في الحديث عن القطع الفنية الجميلة التي يصنعها لكونه من ضمن ورشة الآربيسك وأتقن المهنة باحترافية، قطع فنية حلوة مثل، طاولات زهر – شطرنج – طاولات فنية للمكاتب – مباسم آركيل – وغيرها، تعلم المهنة فور دخوله السجن وأتقنها بشكل جيد ويعمل مقابل أجر معين يعينه داخل السجن.
50 نزيلاً يعملون بورشة خياطة
مهنة الخياطة من المهن الرائجة كثيراً داخل السجن فهناك ورشة الخياطة تضم أكثر من 50 نزيلاً، محمد مشمشان المسؤول عن هذه الورشة، أشار إلى أنه يتم فيها تصنيع لباس النزلاء الجدد، إضافة إلى ملابس عناصر حفظ النظام والشرطة، وبجودة عالية، مضيفاً أن الخياطة كانت مهنته عندما كان خارج السجن، لكن أتقن تلك المصلحة في الداخل، كما أنه تم تعليم بعض السجناء المهنة بهدف تحسين مستوى معيشتهم، محمد السجين منذ خمس سنوات لم يرغب بالتحدث عن طبيعة جرمه إلا أنه أكد أنه سيخرج بعد فترة ليست ببعيدة، في حين السجين منذ سنة زهير طيجون يعمل أيضاً في كار الخياطة بدوام كامل من التاسعة صباحاً وحتى الثامنة مساء مقابل أجر مادي، مع استراحة للغداء، مؤكداً أنهم في السجن لا يتعرضون لأي نوع من الإهانة أو التعذيب، تنتهي مدة محاكمته بعد خمسة أشهر وهذا ما يشعره بالتفاؤل والسعادة، أما السجين معاذ يحيى المسجون منذ 8 سنوات يعمل في مجال إصلاح الألبسة للسجناء فقط، يمارس عمله بشكل طبيعي وبدوام كامل، ولم يرغب أبداً بالتحدث عن تفاصيل جرمه .
صناعة الأحذية أيضاً من المهن التي يعمل بها الكثير من السجناء، محمد رشاد دهني يقول موجود في السجن منذ سنة ونصف السنة، محكوم خمس سنوات، في الخارج كان يعمل بتجارة الأحذية بينما في السجن أتقنها حرفة ومهنة مقابل أجر مادي، مشيراً أنه في السابق كانت حركة الشغل أفضل، حالياً تراجعت هذه المهنة بما يتناسب مع الوضع خارج السجن من ارتفاع أسعار المواد الأولية، علماً أنه يصنع أحذية للسجناء ولمن يرغب من أهلهم ومعارفهم في الخارج، كل ما يهمه تأمين مصروفه الخاص.
وفي ختام زيارة سجن فرع دمشق المركزي نستطيع القول: إنّ نزيل السجن مهما كان نوع إجرامه ، يبقى في داخله إنسان كبقية البشر، لذلك فإن إعادة تأهيله وإصلاحه ليست بالأمر المستحيل، وسجن دمشق المركزي أكبر دليل على ذلك فقد نجح بجزء كبير من هذه المهمة من أجل دمج هؤلاء في المجتمع بطريقة صحيحة وجعلهم أشخاصاً متوازنين اجتماعياً ونفسياً.
تصوير: طارق الحسنية