على طاولته أكوام ورقٍ ضاع بياضُها في فوضى حروفٍ زرقاء، حمراء، سوداء، قال إن اختلاف ألوانها يقوده بسهولة إلى الفكرة التي تخدم بحثَه الجامعي الذي طال زمنُ إنجازه أكثر بكثير مما خطّط له، هو الذي تحايل على دفق المعلومات والنسيان باستخدام الألوان المتعدّدة: الأزرق للمراجع العربية، والأحمر للمراجع الأجنبية، والأسود للمراجع المترجَمة، أما قلم الرّصاص فللأفكار الطارئة، القابلة للمحو والتعديل. ينهض لتبديل فنجان القهوة الفارغ، ويتمشى بملابسه الخفيفة ووجهه الشاحب: -أنتظر منذ أسبوع أن توافيني صديقة بخبر أنها عثرت على كتاب يلزمني في مكتبة أبيها، ويبدو أنها لم تستطع البحث حيث عمّ الخراب، ولم ينجُ منه إلا بعض المكتبة! أقول له: – ستجد أي كتاب تريده في مكتبة عريقة أمام البريد المركزي، فتذهب عيناه إلى النافذة المواربة لتخفيف حرّ الضحى: – كنت زائراً مواظباً لتلك المكتبة حتى انقضاء العام الثاني للحرب على البلاد، حيث بتّ أتجول فلا أرى من العناوين، إلا ما رأيته بالأمس وأول أمس، وحاذاني الموظف العجوز الأليف الذي ملّ من مروري وأسئلتي: – مستودعات كتبنا كلها صارت في منطقة سيطر عليها الإرهابيون، وعلى الحدود، بات آخر ما يعبر إلينا هو مطبوعات دور النشر المهمة! هكذا أبلغني أن زياراتي اللاحقة لن تقدّم لي إلا خُفّيْ حنين! يخطر ببالي أن أقول له: – دع هذا البحث لوقت آخر، لزمن ملائم لا تشحُّ فيه المراجِع ولا تبدو كمن وطأ الصحراء وصار يطارد السّراب، لكن أصداءً لصوتِ أبيه تخرج من عمق وعيي: – ماء السقي الذي يصل إلى أرضنا بات شحيحاً ولن أترك الحقل يموت من العطش، سأحمل الماء على ظهري لإرواء مساكب الخضار، أما قطاف الزيتون الذي غابت عنه الأيدي المساعدة وقد تفرق الأبناء في الجبهات لصدّ عدو أحمق، أخرق يعلم تماماً أنه لن يستقرّ أو يقيم في أرضنا الأزلية-الأبدية، فسأجد من يساعدني فيه من النساء، حتى لو أعطيتهن نصفه! والوقود الذي عجزت الدولة عن توفيره كما كانت تفعل في عقود مضت من أجل آليات الفلاحة والحصاد فإن الأرض لا تعرفه ولا تستسيغه، لذلك أخرجت المناجل لتنظيفها وسنّها، ونعمة من الله أنني لم أفرّط بالصِّمْد الذي سأخرجه من المستودع وقتَ موسم الفلاحة .. الفلاح العنيد لم يترك مهمته الأولى تغرق بالحوائل المستجدّة، وحقلُ الأشواك الذي نبت حوله من ظروف قاهرة، سيزيله بأي ثمن وكل ثمن! وهأنذا أرى ملامحه في وجه ابنه الشاحب الذي تقلّص من ألمٍ، وهو يمضي بنفس التصميم لإنجاز بحثه العلمي، يذلل ندرة المراجع ومصاعبَ جمعها لا فرق بينه وبين أبيه الذي يريد لحقله أن يزهر ولموسم زيتونه أن يثمر!
يضع القهوة الساخنة قرب مسوّداته وهو ينتظر بشرى من الصديقة تزفُّ خبر توفّر الكتاب، ثم يفطن إلى وجودي فيبادر إلى التخلي عن فنجانه مبتسماً: – سأبقى متفائلاً بإنجاز بحثي كما كان أبي حين زرع فسيلة زيتون بحجم ذراعي وأنا طفل!.