ليس من شك بأننا نعيش عصر التحولات الكبرى، والسريعة، لدرجة أن الإنسان المعاصر، ومهما بذل من جهد لن يستطيع الإمساك بأطراف المعادلة، والتي تجعله في معظم الأحيان ليس غريباً عما يحدث له، وحسب، بل مجبراً على العيش ضمن تلك الدائرة الضبابية، والتي بدورها تحيله إلى عبد ينفذ أجندة العصر، ولا يحق له الخروج منها، أو حتى الاحتجاج الضمني لما آل إليه حاله من تعسف قهري يطول أيامه بتفاصيلها الكاملة..
تسعى العولمة، أو ما أقترح على تسميته بالمعاصرة، إلى إثبات ذلك، وجعل القرار بيد أشخاص مجهولين يَأمرون ولا يُأتمرون إلّا بما تمليه عليهم مصلحتهم الخاصة !!..
مع بداية الألفية الثالثة، والتي أقترح، أيضاً، على تأريخها ببداية العقد الأخير من القرن المنصرم، بدأت مراكز البحوث العالمية-المتأمركة – تلعب في مجمل بقاع الأرض، دور صاحب العرش الذي يدير مملكته بالخفاء، وبحسب ما يتناسب مع أمزجته، تحت ذريعة الارتقاء أو الاصلاح لدرجة أن يقيس انتصاراته وهزائمه في هذا المجال، بناءً على تلك الأمزجة، من دون أي حساب لعملية التحول الجماهيري، والتي هي من تفرز- بالنهاية – الغث عن السمين في حقبة ملكه المطلق..
يرى “غوستاف لوبون” بأن القرارات تعجز عن تحويل النظم الاجتماعية تحويلاً عميقاً، لما هي عليه من التعقيد الشديد, اذ إن هوس الإصلاحات الكبيرة – بمعنى التغيير القسري، والسريع لبنية المجتمعات – هو من أشأم ما تُعرض له أُمّة، مهما ظهرت هذه الإصلاحات القوية طيبة من الناحية النظرية، وهذه الإصلاحات لن تكون نافعة إلا حين يغدو من الممكن تغيير روح الأمة، ويضيف الفرنسي “لوبون” بأن الزمن وحده من يمتلك هذه السلطة، كنفي مطلق للعمليات القسرية – السريعة التي تفرضها السلطات السياسية والعسكرية على المجتمعات من دون الأخذ في الحسبان لروح تلك الأمة.. في مكان آخر من كتاب “سيكيولوجيا الجماهير” يرى “لوبون”: أن التحول يخضع لعاملين، الأول هو تلاشي ما تُشتق منه عناصر حضاراتنا، والثاني هو ظهور أحوال عيش ناشئة من مبتكرات العلوم الحديثة، وفي حال كانت أفكار الماضي مازالت قوية في البنية المجتمعية لأفراد الجماعة، فإن الدور الانتقالي سوف تعم مجتمعاته الفوضى، بمعنى إذا لم تكن روح المجتمع مهيأة لتقبل التغير فإن الفوضى هي التي سوف تحل محل الاستقرار..
-هل تأخذ مراكز البحوث- الصانعة المطلقة لسياسات الدول الكبرى- هذا بعين الاعتبار ؟!.. يؤكد “لوبون” بأن فشل “نابليون” في السيطرة على اسبانيا وروسيا، كان بسبب جهله لروح جماعات الشعوب غير الفرنسية، هذا الجهل مثلما أعد الجيوش للخروج خارج حدود فرنسا، لعب الدور الرئيس في الإعداد لسقوطه..