مصادفة جعلتني أتوقف هناك وأنا على سفر! البيت ريفيٌّ أتعبه الزمن.. أبوابه الخشبية فقدت الزيت الذي لمّعها ذات يوم، ومناخل النوافذ تمزقت حين عصفت بها ريح شتاءات قاسية، وعاجلتها يدٌ بالترقيع كأنها ثوبٌ استعاد صلاحيته للارتداء، والأحواض الخارجية طفحت بالتراب الجاف وورق الشجر اليابس، وحشرجة مضخة الماء تشي بأن البئر تعطي من جوفها كلَّ ما باستطاعتها، حتى توقفت الكهرباء فسكتت المضخة وعلا صوتها رداً على التحية، مقبلةً وهي مجللة بالعرق، رفيق الضحى الحار في آب، وسريعاً اصطفّت الكراسي الخفيفة في ظلّ شجرة المشمش التي طرحت كل ثمارها، وبدت كسيدة خجول فوجئت بزوار وهي بأخف الملابس المنزلية.
قالت إن أقل من ساعة كهرباء أنعمت عليها بملء الخزان الإسمنتي، وغلي الإبريق ليكون قهوة، أو شاياً، أو متة، وهي سعيدة بالرفقة الفجائية التي أتتها على غير انتظار بعد أن انغمس الناس بمشاغلهم وصار الزائر نادراً ما يمكث طويلاً في زيارة أحد! أحضرت خبز تنور ومربى مشمش: -استعضتُ عن التنور بصنع هذا الخبز في مقلاة، وأمام عدم تصديقي الذي لم أعبّر عنه بكلمة، شرحت لي أن الخبزَ صُنع في مقلاة جافة، ثم نهضت وتفقدت بيديها فتحة شوالٍ ضخم ممزق الجوانب، معبرةً بفرح شديد: – نبتت البطاطا. انظري! في تراب هذا الشوال الرطب زرعت بطاطا تكفيني فصل الخريف القادم! ثم حملت مصفاةً وغابت في درب ترابي بدا لي كأنه في مأتم، حتى عادت بمصفاتها مليئة بالباذنجان والكوسا والبندورة والفليفلة الخضراء حالفةً يمينَ بقائنا لتناول الغداء مما تيسّر!
خارج “بقعة الضوء” هذه، كنت تركتُ هموماً يعاضد بعضُها بعضاً من موجة الحرارة، بل من عواصف النار التي أفسدت النوم والراحة، وأحاديث القوم عن فساد “المؤونة” وتسليمها لحاويات القمامة، وعذابات الحصول على ربطة الخبز اليومية من الأفران المكتظة بالزبائن، وندرة الوقود المنزلي الذي قبلنا بتوزيعه الشحيح لكنه لم يقبل بنا، والغلاء المتصاعد مثل أبخرة قِدر يغلي على نار مستعرة، والافتقار إلى سماع أغنيات كانت كالرفيق الأنيس لا يغادر صباحاً ومساءً في كل حالاتنا الوجدانية من فرح وأسى وحنين واشتياق، حتى صدح صوتها مع تغريد طائر عبر بجوارنا: -إنه يريد الخبز الذي اعتاده على تلك المصطبة، وقد بللته قبل وصولكم لكنني نسيت وضعه في مكانه!
كان الظل الرطيب يهرب من شجرة المشمش، فانتقلنا إلى ظل جدار المنزل الخلفي حيث لم نعدم راحة النفس حين غرد الطائر الفرح بفطوره وهبّت نسائم يعرفها براحُ أريافنا، وشعور استيقظ بعد نوم طويل: -الحرب الجائرة على سورية سحبت منا رصيداً هائلاً من القدرة على ابتكار وسائل لعبور آخر أنفاقها، وهذه السيدة كائنٌ حقيقي تعيش معنا وبجوارنا وأحاطت نفسها بكل وسائل الحياة الضرورية البسيطة، كأنها ضنّت أن تضيع الثروة الحقيقية في عواصف تدمير الثروات المادية: ثروة حب الحياة وتنميتها بطاقة غريزية، هي طاقة أرضنا المشهود لها!
حين استقرّ فنجان القهوة أمامي قلت لها قبل أن تبتسم: -أنت قارّة ضوء ولست مجرد بقعة ضوء في زمننا المعتم!