التكسّب بالشعر عموماً، وشعر المديح الذي استهدف الحكّام، والأمراء، والموسرين، وسواهم، في معزل عن حيازة الجدارة الشخصية التي تستدعي الامتداح، أمر يثير استنكار أبناء عصرنا، ولكن إضاءة ظرفيته الخاصّة على المستويين المكاني والزماني يجعلنا ننظر إليه بعين أخرى, والأساس في ذلك أنّ الشاعر كان – ونأمل أنه لا يزال – منتجَ قيمٍ، لا وصّافاً، ومسجّلاً لوجودها، ومدّاحاً لحامليها فقط, فالشاعر الذي كان يمتدح أميراً، بما ليس فيه، لا يعني أنّ الامتداح كان مقتصراً على اندراجه في سياق التملّق والاستجداء، والطمع بالجائزة, وإنما كان الأمر أعمق وأبعد غوراً، فامتداح الجبان بالشجاعة، والبخيل بالكرم، كان يرمي أيضاً إلى ترسيخ قيمتي الشجاعة والكرم، وحثّ الآخرين، بمن فيهم الممدوح، على التحلّي بهما, نعم كان الطمع والتملّق قائمين في صلب واقعة الامتداح، لكن حثّ المجتمع على التمسّك بتلابيب القيم الأخلاقية المطلقة، كان موجوداً وماثلاً في جميع ما نظمه الشعراء العرب في سياق الامتداح، بما في ذلك امتداح الموتى في سياق الرثاء، وامتداح الإناث في سياق الغزل, ولنا أن نمضي إلى أن المجتمع كان يعي أهمية وجود الشاعر بوظائفه جميعها، ويعي أهميّة تأمين حياته بما يكفل استمراره في أداء وظيفته الثقافية العليا بشكلها الأمثل.
ولكيلا يغالي أبناء عصرنا في استهجان فكرة التكسّب بالشعر، نضرب مثال النشر في الصحف والمجلاّت المعاصرة على امتداد العالم، حيث يحدث في معظم الأحايين أن يكون بين كتبة الصحف والمجلاّت شعراء كبار، وأدباء وباحثون في مختلف المجالات. ويحدث أيضاً أن تنسجم الكتابات المنشورة مع السياسة العامّة للجهات الناشرة، سواء أكانت الجهات جهات حكومية أم مؤسّسات خاصّة, وربّما بلغ الانسجام حدود الامتداح المباشر للسياسات العامّة، أو الخاصّة التي تنتهجها الجهات المعنيّة بالامتداح. والكاتب المعاصر ينال مقابل ما يكتبه أجراً ما، قد يكون مجزياً، وقد يكون ضئيلاً للغاية، ولكنه يظلّ أجراً، أو ثمناً لكلام مكتوب منشور، وهذه الآلية المعتمدة في دفع الأجور والأثمان المعاصرة لا تختلف في جوهرها عن الأعطيات والتقدمات التي كان يتلقّاها شعراء العصور القديمة, صحيح أنّها كانت تلتبس بفكرة العطاء المباشر الذي يمنّ به الخليفة أو الأمير على هذا الشاعر أو ذاك، لكنها أيضاً هي تقدمات الدولة والمجتمع؛ كان المال مال الدولة، ومال الشعب، حتى لو تجمّع كلّ ذلك المال القديم بيد الخليفة أو الأمير وأعطى منه بحساب، أو غير حساب، على هواه، أو على كره منه، لا فرق.