عن الإخو- كراسي.. تونس أو السياسة وتناسخ الأرواح

الديمقراطية ليست قضية وصفية.. ولو كانت كذلك لكان “الإخوان” أكثر ديمقراطية من مونتيسكيو..

ولكنها ثقافة، ووفاء، وشجاعة، وتاريخ.

– ثقافة، لأنّ المؤمنين بها يدركون أنّ خسارتهم في الديمقراطية لا يعني انهيار النظام الديمقراطي.

– وفاء، لأنّ الوفاء بالعقود يشمل كل أشكال التعاقدات الأخرى بما فيها العقد الاجتماعي.

– شجاعة، لأنّ من يكفر بالديمقراطية عليه أن يعبر عن رأيه بشجاعة، ولا يكون جباناً يختفي خلف مقولاتها تدليساً.

– تاريخ، لأنّ من كان تاريخ نشأته مناهضاً للديمقراطية، فلا يلعب لعبة الفيروس المُعدّل.

إن شئت فالديمقراطية من دون عدالة، هي ديمقراطية من دون إنصاف، وفي مثل هذه الحالة تتحرك الطبيعة وتُسائل العقد، حين يغيب العقد تحل الطبيعة، والطبيعة تميل بعنف نحو العدالة، وبين العقد والطبيعة توجد مكانة لأقل خسارة.

تونس نموذجاً.. هي كذلك لأنّ الثورة منحت لكل الطيف اللاّعب في المشهد السياسي فرصة التكيف مع الوضع الجديد.. لم يكن الناس سواسية في هذا المسار. هناك من وضعت تحت يده كل عناصر التمكين لبدء السباق، وهناك عموم الشعب الثائر انطلق حافي القدمين. كان من المتوقع أن يهيمن من مُكّن ليفوز بالسباق غير الطبيعي وغير العادل. إن ديمقراطية حقيقة وجب أن تمكن أبناءها من وضعية سباق طبيعي. في تونس هيمن كل رفاق برنار هنري ليفي وجان ماكين، ولعب الباب العالي دوراً كبيراً في هذا التمكين.

سيتحدث تيار النهضة عن الديمقراطية لأنها بشروطها الهشة في تونس مكنته من احتلال البرلمان بأرتميثيقا “شبه علم” الانتخابات. كلما أمعنا النظر في روح الديمقراطية وقواعدها الكلاسيكية ، كلما اعتبرناها اليوم خداعاً، وهو كذلك خداع لا بدّ منه، لكن قولنا لا بدّ منه  هو حين لا توجد بدائل للإنقاذ، هنا الدستور يقتضي خروجاً من ديمقراطية الزيف لإعادة اكتشاف الحاجة إلى الديمقراطية الحقيقية. أمام الشكل الهجين لما يمكن نعته الإخو-كراسيا، نصبح أمام اقتدار بلاغي مهول يوحي بأنّنا بالفعل أمام الميلاد الثاني للجمهورية الفاضلة.

ثلاث قوى اليوم تلتئم في تونس لمواجهة الإخو-كراسية:

-الرئاسة التي جاء بها شارع الثورة

– الجيش ومؤسسات الدولة

– شباب الثورة والقوى التقدمية

في مقابل كل هذا، يتحدث خصوم قيس سعيد عن انقلاب على الدستور، بينما هو يمارس حقاً دستورياً، لأن خرق الدستور بدأ بأساليب التغلغل العميق ضمن المساحات التي لا يرصدها المجتمع نفسه.

لو كان سعيد مستبداً لأودع بوقاً لتيار النهضة هو أبو يعرب المرزوقي في السجن، بعد كل هذا التشنيع. حتى الآن لا أحد يعرف ماذا يريد الإخوان من تونس؟ فلقد انهار الاقتصاد، ولم يستطع البرلمان أن يساهم في تعزيز المحاسبة، لأنّ ما تعلمه الإخوان هناك من الباب العالي هو التحالف مع المافيا: أسهل الطُّرق للتمكين.

قلت إن الطريق الأكثر أماناً بين العقد والطبيعة هو تأويل الدستور، في اتجاه المقاربة الإستراتيجية لا السياسوية. لا خوف على الدستور والبرلمان والديمقراطية من هذا الموقف، ذلك لأنّ الأمر يتعلق بتصحيح مسار الديمقراطية نفسها على أسس أوضح. برلمان يهيمن عليه الإخوان والمافيا، سيجعل الديمقراطية في تونس وسيلة لإنتاج الفقر، في بلد يعاني من مضاعفات الجائحة، وفشل التيار العصملّلي في حلحلة الوضع الاقتصادي.

الرهان على ديمقراطية تونس كنموذج لا تقف عند هذا المنعطف. على الأقل نتفهم اعتراضات الملّة الإخوانية على ما يسمونه بالانقلاب، لكن أي معنى للانخراط في تعزيز السردية الإخوانية المتمرسة بالديمقراطية والدستور؟ أليس الدستور يتيح الاستثناء إنقاذا للوضع؟ سيقولون: لا يوجد داعي لكل هذا، حتى يُصار إلى تطبيق الفصل 80 من الدستور؟ والحقيقة هي أنّ هذا خلاف حول المصداق لا المفهوم، لأنّ الإخوان لا يرون حدوث ما من شأنه (…..) ولكن التغلغل الإخواني في مرافق الدولة يعني للآخرين الشيء الكثير.

انقلب قيس سعيد على الإخوان وليس على الديمقراطية، هو صراع سياسي تحدده قواعد اشتباك خفية، لكن تفعيل الدستور هنا هو فعل ديمقراطي بامتياز.

ألم ينادي الإخوان من قبل بعزل ومحاكمة الرئيس؟ ماذا لو ظفروا به؟

أقرأ الكثير من الاعتراضات ي بيانات أنصار النهضة من طنجة إلى جاكرتا، لكن سؤال طرحته يوماً على بعض أصحاب هذا البيان: ماذا عن الدولة الحديثة والمؤسسات والبرلمان والدستور؟ أجابني القيادي بذهول: هذه قضايا لا تهمّ، إنّها مفاهيم جاهلية.. سيطول بي الزمن لأنصت لنشيد العشق الديمقراطي في بيانات جيل معدّل، وجد مفتاحاً سحرياً لمحو آثار ازدواجيته: كان ذلك سابقاً، والجماعة تطورت؟ نعم: كورونا أيضا تطوّر. التطور هنا لا يعني سوى اكتساب قدرة فائقة على التنكّر والسيطرة الناعمة.

هم ينتظرون نجاح مشروع النهضة في تونس، ولكن الديمقراطية عارض على ألسنتهم. الديمقراطية أميرة وليست سهلة، لا يمكن نيلها بجُمل كاذبة ودجل وابتسامات صفراء. للديمقراطية هي الأخرى أنياب تدافع بها عن نفسها، وتصحح نفسها بنفسها عبر وسائلها المتاحة، وهذا بالفعل ما يحدث في تونس، إذا ما أدرك المعنيون بمستقبل تونس أهمية المنعطف.

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار